ردّاً على علي فياض
ردّاً على علي فياض
عبدالله ريشا

أمين عام المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية

Wednesday, 24-Jul-2024 07:26

أتت مداخلة الدكتور علي فيّاض في المؤتمر التشاركي الثاني الذي أعدّه «التجدد للوطن» مميّزة في الشكل والمضمون والتوقيت. رغم أن النائب فيّاض عمد إلى التنويع بين الأنا والنحن، الّا ان الانطباع السائد عند معظم الذين عاينوا هذه اللوحة هو أنها من حياكة «حزب الله» وهي طرح متقدم جدا، قُدّم بعناية الى مراكز الفكر والسياسة والدراسات والاعلام، وتشكل مادة دسمة تصلح لأن تكون منطلقًا وطنيًا لحوار جاد بين كافة المكونات اللبنانية.

هذا في الشكل. أما في المضمون، فأنتقل مباشرة إلى المادة 95 من الدستور اللبناني التي تفتح الباب امام مرحلة انتقالية، فيقول النائب فياض: «أنا من الذين يعتقدون بأن المرحلة الانتقالية إنما تتصل بكل ما يرتبط بمقتضيات الدولة في بُعديها الداخلي والخارجي، أي النظام السياسي والموقع الجيوستراتيجي». وهنا أضاف بعدًا جديدًا على الإصلاحات السياسية التي أشارت إليها المادة 95، أي إلغاء الطائفية السياسية وتشكيل مجلس الشيوخ، وهو الموقع الجيوستراتيجي. فهل هذا يعني أنّ تَموضع لبنان أصبح شرطًا ملازمًا لاستكمال الإصلاحات والانتقال من المرحلة المؤقتة إلى النهائية؟

 

قد يتبادر إلى الأذهان أن فياض يشترط انتقال لبنان إلى موقع محور المقاومة الجيوستراتيجي، لكن يعود في آخر النص ليقول: «المقاومة لم تسعَ يومًا إلى إلزام الحكومة بتحالفاتها وخصوماتها ولا دفعت باتجاه أن يكون تَموضع لبنان الرسمي في النظام الإقليمي حيث تتموضع المقاومة نفسها».اذاً، هو نوع من الحياد المقاوم في تركيبة فريدة تتكامل فيها الدولة والمقاومة في تموضع مواجه لإسرائيل ومساند للحقوق الفلسطينية (مسار الحقوق الفلسطينية الكاملة وشبه الكاملة) ومساند للقضايا العربية لأنّ فياض طرح ايضا «ترميم علاقات لبنان العربية» كما ورد في لائحة القضايا الوطنية المشتركة .اذاً، نحن امام تركيبة جديدة مبتدعة من واقع مرسخ تدعو إلى تموضع مَرِن غير مطبّع مع إسرائيل. ويختم فياض مؤكدًا على تلازم الدستور والتموضع قائلاً........ أي دولة مستقرة من حيث بنية نظامها السياسي وتموضعها الجيوستراتيجي.

 

أما في موضوع الهواجس الذي نال حيزًا كبيرًا من التعليقات، فإنني أسجّل الملاحظتين التاليتين:

الملاحظة الأولى: إذا كان الهاجس الشيعي المتمثل بمواجهة الكيان الصهيوني لأسباب وطنية وأيديولوجية، والذي يستدعي وجود السلاح، هو هاجس وجودي يستدعي مقاربة وأدوات من خارج المنطق الطبيعي للدولة، لماذا صُنف الهاجس المسيحي، أي حماية الوجود واستعادة الصلاحيات في ظل التضاؤل الديموغرافي، بالوجودي والذي يتطلب علاجًا من خارج منطق الدولة؟ هل هذا يعني أن هاجس المسيحيين لم يعد يُعالج من خلال إصلاحات دستورية كما هو حال السلاح الذي لم يكن يوماً قابلاً للمقاربة من داخل الدستور؟ وما هو سبيل معالجة الهاجس المسيحي؟

 

الملاحظة الثانية: في مضمون الهاجس المسيحي يجب لفت النظر إلى أنّ علي فياض استحضَر هاجسًا قديمًا يعود إلى عام 2006 عند توقيع اتفاقية مار مخايل، قد يكون فقد صلاحيته اليوم. يومها كان بعض المسيحيين مع من يمثّلون من شريحة شعبية وازنة، تَوّاقين الى استعادة مواقع في الدولة بعد قطيعة دامت 16 عامًا. أما اليوم، وبعد تعثر تجارب الحكم غير المنتجة و المعارضة غير المجدية، يشهد العقل المسيحي تغييرات جذرية لا وقت لمقاربتها في هذه المقالة، لكنها تتلخص بانعدام الثقة بالقيادات والدولة والنظام، واجتياح عقلهم الجماعي بما وصفه علي فياض بالمسار الجيومجتمعي المتعثّر. علماً انّ فياض لم يحدد المسيحيين في لبنان ولكن الحقيقة انهم اصبحوا اكثر فدرالية واقل صيغوية، واصبحوا بحاجة إلى تطمينات بما يخص نمط الحياة والحرية والاقتصاد الحر المنتج، وإلى ضمانات لبناء دولة القانون حتى لو طالت المرحلة الانتقالية. فالمسيحيون اليوم لم يعودوا يربطون بين الصلاحيات السياسية لزعيمهم وبين الحياة الحرة الكريمة المزدهرة، فبين الصلاحية والعيش المستقر مسافة طويلة أثبتت التجارب الأخيرة أن الاستقرار الاجتماعي أهم من كل المكتسبات السياسية للأحزاب التي تمثّلهم في الدولة، وبالتالي انّ اي حوار مع المسيحيين يجب ان ينطلق من مرتكزات الاستقرار المستدام وبناء دولة القانون.

 

أما في توصيف حرب المسارات السياسية، فلقد لفتني في المسار الثالث، أي مسار الحقوق الفلسطينية الكاملة وشبه الكاملة، موقف إيران من دولة فلسطينية واحدة لرعايا الديانات الثلاث. هو موقف مؤسس الكتائب بيار الجميّل من خلال رسالة بعث بها إلى كيسنجر عام 1974 مطالبًا بدولة فلسطينية واحدة على غرار النموذج اللبناني التعددي. هي ساحة قد يلتقي عليها المسيحيون مع الشيعة وكل المكونات اللبنانية انطلاقًا من موقف يعبّر عن الوجدان المسيحي. فوجود دولة على حدودنا تمتثل بالنموذج اللبناني التعددي حيث تتعايش الديانات السماوية كافة، يعتبر تحولًا استراتيجيًا يجعل من المنطقة أكثر أمانًا مع سقوط نموذج الدولة العنصرية.

 

في روحية النص تغييرات مهمة تحاكي هواجس الطوائف الأخرى على سبيل المثال، المقطع المتعلق بالمسار الجيوستراتيجي الذي يتجه لصالح إيران وحلفائها..... أما المسار الجيو-اقتصادي فهو يراوح في وضعية أخرى غير متوازية، كذلك الأمر بالنسبة إلى المسار الجيو-مجتمعي فهو أشد المسارات خطورة نظرًا للانقسامات الداخلية كما ورد في قراءة النائب فياض للمسارات، مضيفًا عليها الاقتصادي والمجتمعي المتعثر، دلالة على تواضع وواقعية. فالصعود الجيوستراتيجي للمحور ليس كافيًا وهو ليس نصرًا حتميًا كاملًا يصرف في الداخل، ما سيفتح الباب أمام حاجة للتعاون مع كل اللبنانيين لسد الثغرات الاقتصادية والاجتماعية. هي نافذة مهمة تفتح الباب على عملية تشاركية من خلال سلطة جديدة تتمتع بغطاء داخلي وخارجي تؤمّن شبكة أمان للمرحلة القادمة.

theme::common.loader_icon