«ذات شتاءٍ في سوكشو» رعشةُ النوستالجيا في جماد المكان
«ذات شتاءٍ في سوكشو» رعشةُ النوستالجيا في جماد المكان
نسرين بلوط
Saturday, 13-Jul-2024 07:19

في الروايات التي تحملُ اسم المكان أو المناظرة الرمزيّة له، والذي يدور في فلكه السرد، نجدُ أنّ لهذا الأمر دلالة وجدانيّة تربط الروح بمكان الحدث.

ففي سيرة الشعراء الجاهليين، كانت هنالك وثبة عملاقة في التمسّك بالبيئة والرمال والهودج والجمال، وكانت المعلّقات أشبه ما يكون بشعر الثُكل، الذي يخزّن الرثاء العاطفي لفقدان الحبيب، وقد تكون الصحراء ناموس الأحجية العجيبة التي وَشمت على صدر الغيب كما في روايات ابراهيم الكوني الذي ادّخر مكنونات البادية ليفرغَ جوفها من الألغاز الملعونة التي تسكنها ولكنّه لم يستطع أن يتغلغلَ في سراديبها كافّة، فآثر الاحتجابَ وراء رموز الحكمة والمعرفة التي حباه بها الأجداد الأوّلون. وكذلك في روايات كارلوس زافون التي تنطق برائحة المكان وانطباعه الباصِم على الشخصيّات التي تتنازع في قصصه على الوجوديّة التي تتغلّب عليها وتحجر على تحركّاتها، ولولا المكان الحميمي الذي تواجد فيه أبطال رواية «مئة عام من العزلة» لَما كتب غابرييل غارثيا ماركيز رائعته التي خلّدت لتاريخه الأدبي. وكذلك وضع فيكتور هيغو جُلّ فلسفته الواقعيّة المفرطة في «مذكّرات محكوم عليه بالاعدام» في مكان العقدة القصصيّة وهو السجن الذي تلتفّ حوله الأحداث بإطباقٍ تام وتجري بداخله النزاعات العاطفيّة والتجاذبات الفكريّة والتوليفة المبهمة التي تعقد ساعديها حول حنجرة الحياة والموت، واستلهم نجيب محفوظ رواياته من صميم الشارع المصري ونماذجه، فكما قال الفيلسوف طاليس: «إنّ العالمَ الذي نوجد فيه ممتلئ بالآلهة والأنفس».

 

وفي رواية «ذات شتاء في سوكشو» الصادرة عن دار نوفل- هاشيت انطوان للكاتبة الكوريّة الفرنسيّة إليزا شوا دوسابار، والتي نقلتها المترجمة ميرنا باسيل خليفة للعربيّة بأمانة واتقان، تشبّثٌ صارمٌ بالمكان الذي يبقى بوجهه الصارم الأليف لا يتبدّل أو يتهدّل، يحاور المطلق في التسلسل الزمني ويبلغ حافّة التبذير العاطفي المشحون بالحنين، ولكنّه لا ينبري يعيد الالتفافَ حول نفسه في حلقة دائريّة ظافرة، ويرفض التحرّر من شباكها المتبرّمة والمضجرة.

 

هي قصّة بسيطة تدور حول فتاة تعمل في فندق عتّقه الزمن وحفر أخاديد همومه على هيكله في سوكشو ذلك المكان القصيّ القاحل في كوريا، حيث يخيّم عليه صقيعٌ ماجنٌ في الشتاء، يفاجئها نزيل فرنسيّ يدعى كيراند بحضوره اللافت. وهو يرسمُ وجوهاً انطباعيّة ثم يسكب عليها الحبر لطمس ملامحها، تنشأ بينهما صداقةٌ لا يعتريها الشجن العاطفي أو التعلّق اللاعقلاني، بل هي أشبه ببحيرة راكدة تحرّكها الأغصان المستلقيّة على حوافّها والمُنسدلة من عنق شجرة وارفة حنون، هذه العلاقة الغريبة جعلتها شاردة الذهن خلال زياراتها لأمّها بائعة السمك التي تتمسّك بابنتها ذاهلة برؤياها عن كلّ ما حولها بعد أن هجرها الرجل الفرنسي الذي أنجبتها منه وولّى عائداً إلى بلده.

 

خلال أيّامٍ قليلة يقومان فيها بالتسكّع في شوارع سوكشو، تتقرّب من كيراند لتلمسَ حدود عالمه المدهش، يساورها شعورٌ بالانتماء إليه رغم غرابته، ممّا يدفعها لقطع علاقتها بصديقها جون أوه، وتكون النهاية مفقودة في آخر الرواية، لأنّ الكاتبة تغلق الستار على آخر مشهد على ملامح من آثاره تجدها البطلة في غرفته، وكأنّها تلمّح لغيابه، وتفتح باب الاحتمالات المزدوجة في رسمٍ تركه على المنضدة، هو آخر شعاع يتبوّأ صدارة الأمل في جمود المغيب الناعس عن عالمها.

 

لعلّ جماليّة القصة تكمن في التطرّف الوصفي الذي نزحت إليه الرواية كمسعى كينوني يتناغم مع الفكرة التي تطعنُ بالاسهاب بمدية الاختصار، لتحشدَ النوستالجيا الطوعية في مهبّ الهوامش التوضيحيّة للشخصيّة الرئيسيّة المتكلّمة فيها وهي الفتاة.

 

هذه الرواية تنتمي الى السرد الصامت، وتشبه لوحة انطباعيّة تحفل بالرموز والسرياليّة الخفيفة والصرخة الخرساء التي لا تنطق الا بالشكل، ولا يصدر عنها صوت يدلّ عليها، لكنّها تنجح في العبور الى جدليّة العناق الروحي بين السكون والانفعالات الذاتيّة، وقد قال الناقد الفرنسي رونالد بارت مُكتشف رعشة النص انّ المعاني الثاقبة الواعزة للذة تنبع من معنى النص وإعادة قراءته. وقد تمرّ هذه القصّة بخفّة بالغة تشبه رقص «الباليه» على بحر الايقاع المنسرح، تجود بنسائمَ مُلتحفةٍ بأنّات الشوق واختلاجات الميل النفسي.

 

ومن هذا المنطلق، أجادت إليزا شوا دوسابار لعبة التضافر العاطفي بين البصر والتبصّر، لتهيمنَ بنفحاتها العاطفيّة على شعور القارئ وتسلك سبيل سارتر في حلّ معضلات الوجود على أنواعه بقوله الشهير: «لكلّ فلسفةٍ تطبيق».

theme::common.loader_icon