هي شاعرةٌ متناقضة، تجمع وتفرّق بين المفردات، وتؤكّد دعمها للاحتجاب الكلّي عن عالم المادّة، لتحنّطَ كراريسَها في اهراماتِ البوح.
في قصيدة «قبّعة روبرت فالزر»، وهي تعني الكاتب السويسري الشهير الذي أطلق عليه الياس كانيتي مقولة شهيرة تنصّ أن لا وجود لكافكا من غير فالزر، والذي عاش ومات وحيداً، تقول هاسلر: «كلماتِ في صقيع الشتاء على مخطوطٍ في حجم اليد، عباراتٌ مرتعشة من البرد تنكمش على نفسها شوقاً، إلى النفَسِ الحي، بين التلالِ عند الجذعِ المتجلّدِ للكلماتِ، وجدوا الكاتبَ متجمّداً، وفيما بعد تلتقطُ السنونُ العباراتِ ويعيرُه أحدُ القرّاء، أنفاسَه في نور المصباح، ثمّ يبدأ كالجليدِ تساقطُ الكلماتِ المحرّرة، وعلى حافّةِ الطريقِ تتدحرجُ قبّعةُ فالزر».
هذا الوصفُ الانتقائيّ الملهم والمبهر للحواس، تستعيره الكاتبة من عمق النور المشعشع بلازورد الحياة، ترثي فالزر بدمع شاعرةٍ تحرّرت من الرّبل اليابس للحرقة وانطلقت في سياق التعبير تنشدّ السمفونيّةَ السابعةَ للموت، فهذا الذي يستحقّ الحياةَ لم يتبقّ منه سوى جسدٍ متجمّدٍ وقبّعةٍ تدلّى علبه. هي فلسفة العدم التي تقلق الانسان بخواصّها ويمنحها شأناً ازدواجيّاً يعكس حبّه للبقاء وفضوله لاكتشاف عالم الفناء، وهي نفسها الريبة التي عبّر عنها هيدغر في تأويله الفينومينولوجي، وهو القائل إنّ الموتَ دائماً يتبعني وإنّي هالكٌ لا محالة، هذا التقمّص الدراماتيكي للفلسفة المأساويّة والمشهد الأخير لمنجل الموت، ينتج قصيدةً حزينة تتوهّج بانعكاس بخار الثلج على الطبيعة، حيث تصبح عجوزاً مغرورقةً بالحسرة البريّة غلى غاباتها وأزهارها ومروجها الخضراء.
في قصيدة «لغة الآباء» تقول: «عندما كنتُ في التاسعة، كان لديّ آباء فحسب، ،عندما كبرتُ أخذ الريفُ شيئاً فشيئاً يتغطّى بالبيوت، وصارت الفاكهةُ تأتي بالطائرة، من الأرياف التي لا تزالُ الأرضُ فيها تستلقي مكشوفةً وتتنفّس، كان الآباءُ يجلسون على كراسي التدريس أو على الفوتيهات في الادارات، عندما كنتُ في التاسعة عشرة كانت لغةُ الآباء في كلّ مكان، فجلستُ تحت الشجرة الأخيرة ، وأرهفتُ سمعي لصمتِ الأم».
هي قصيدة فلسفيّة جنّدت فيها هاسلر الأسلوب الواقعي المباشر والوجدانيّةَ الخالصة، لترسمَ ملامحَ الكون في شعرٍ انسيابيّ ينفخ أشرعته ممعناً في سفره نحو الأفق البعيد الذي لا نهايةَ له، فهي تعبّر عن التطوّر الانفعالي السريع للمادّة والانسان، حيث يتجمّع اللولب الحقيقيّ المتسلُق من الحياة صوب الموت، فيعود الإنسان في النهاية إلى التراب أسفل الشجرة، ليتحوّل بدوره إلى تراب، هذه التأويلة البسيطة في ظاهرها والمنيعةُ في باطنها تتحدُث عن شاعرةٍ تستشهد بالروحانيّات الماورائيّة للوجود، وتضع بصمتها في كلّ ركنٍ يقع عليه بصرها الاستكشافي.
إيفلينيه هاسلر شاعرةِ لم ترتطم بسياق الجمل المتكرّرة، واعتنقت التجديدَ والتحديث، وعبرت نفقَ الغموض ثمّ استراحت عند التعبير السهل الممتنع، لها روايات ودراسات عديدة ولكنّها حفرت جذورها في أرض الشعر، وتجلّت مقدرتها في تصوير الحياة التي حسب قولها أرادت أن ترفعَها من مفاصلها وتنتظر الريح، وهو ما فعلته في قصائدها الدافئة التي خفقت بسحر البيئة تلك التي تحتضنها، وعبقت برائحة الورد المرتمي تحت أقدام الشبابيك الخلفيّة للشمس.