أوديب وثيسيوس ميثولوجيا للفلسفة التجريبيّة والجبريّة
أوديب وثيسيوس ميثولوجيا للفلسفة التجريبيّة والجبريّة
نسرين بلوط
Monday, 01-Jul-2024 07:02

تكاد الفلسفة تلتحم بتخوم الأدب الذي صاغه عميد الأدب طه حسين في قالب جديد، يتراوح بين التجديد والتفنيد، فقد حدّث الأدوات الفعّالة التي تجرّم الفعل الأدبي المتخاذل ليرتقي به الى ملاذات آمنة، وفنّد الرتابة الفادحة التي لازمت الكتّاب الكلاسيكيّين المنحازين للإعادة والإسهاب في التسلسل الزمني والسردي.

وفي رواية «أوديب وثيسيوس» التي نقلها عن مسرحيّة الكاتب الفرنسي «أندريه جيد»، والتي ربطت بين قصّتيهما في بحث اجتماعيّ يجنح للقيم الأخلاقيّة، التي ترتوي من سواقي الفلسفة الماورائيّة، يروي حسين بقلمه المتماسك الذي يمسك بتلابيب الخبايا السرديّة، قصة أوديب الذي ولد لملك عقيم بعد سنوات من الانتظار، غير أنّ الكاهن يحذّره بأنّ هذا المولود سيكون وبالاً عليه وسوف يقوم بقتله بعدما يكبر، فيقرّر الملك التخلّص منه ويعهد به الى نجار ليقتله، ولكنّ قلب الأخير يرأف بالطفل فيعلّقه على جذع شجرة في الغابة ويتركه ليصارع قدره، فيعثر عليه أحد الفلاحين ويقوم ببيعه لملكٍ آخر عقيم فيتبنّاه ويغدق عليه وزوجته طبيعةً انسانيّة بختزنها في اللاوعي، أمّا في وعيه الظاهر فهو إنسان محبّ للحياة وكلّ أصناف اللهو. بعد أن يصبح شابّاً ويعرف حقيقة تبنّيه يهجر أبويه ويلتقي في طريقه بأبيه الحقيقي الملك ويعترض طريقه دون أن يتعرّف أحدهما إلى الآخر، فيقوم أوديب بقتله ثمّ يتزوّج من أرملته الملكة دون أن يفقه بأنّها أمّه الحقيقيّة وينجب منها أولاده، لكنّ الحقيفة تتكشّف بعد أن يحلّ الوباءعلى المدينة ويتعيّن حسب أوامر الكاهن بأن يعترف قاتل الملك الحقيقي بجريمته، وبعد التحقّق بعيداً من التملّق في أصل أوديب يتّضح للجميع الحقيقة البشعة وأنّه قاتل أبيه، وما زوجته إلّا أمّه الحقيقيّة، فيهجر المدينة بعد أن يفقأ عينيه ليتحرّر من آثامه، ترافقه ابنته، ويطوف في الأرض الغريبة ساعياً الى الراحة التي هجرته، مؤمناً بفلسفة القدرية الجبريّة التي تضع الانسان في الاتجاه الذي يحدّده له القدر.

 

ينتقل طه حسين الى قصة ثيسيوس الملك المقدام في أثينا الذي يقيم الأفراح كما تقدّس العبادات، ويحترف المغامرة كما فعل ابن عمه هيرقل، فيتّخذ البحرَ حزاماً لمشاريعه وينطلق حتى يصل الى كريت التي يحكمها الملك مينوس وزوجته، ويعقد العزم على قتل المينوتور وهو مخلوق عجيب يجمع ببن هيئة الانسان والحيوان أنجبته الملكة بعد أن اقترفت الزنا مع ثور جميل، وهو لا يقتات الّا على لحم البشر.

 

تقع أريادن ابنة مينوس في حبّ ثيسيوس، وتعطيه طرف الخيط لتساعده في الخروج من متاهة الوحش بعد قتله شرط أن يتزوج بها، ولكنّه يقع في غرام شقيقتها ويصطحبها معه بدلاً عنها، ويتركها وحيدة في الصحراء. ويعود ليكتشف أنّ والده قد رمى بنفسه من أعلى الجرف ظنّاً منه بموت ابنه، وتقع زوجته بحبّ ابن ثيسيوس الذي لا حيلة له في الأمر، فتنهش الغيرة قلب الأب ويقتل ولده.

 

يلتقي أوديب وثيسيوس في مناجاة فلسفيّة تتجاوز الظواهر الدالّة على الميثولوجيا الكوميديّة للملاحم التاريخيّة، ويؤرّخان لازدواحيّة وتناقض كبير في الطباع والميول، حيث تحضر الفلسفة التجريبيُة التي تركّز على الحواس، فكلّ منهما راضٍ بما آل إليه حاله، حيث يفقأ اوديب عينيه عقاباً لروحه ويتبع ثيسيوس أهواءه إرضاءً لنزواته، والفرق هنا أنّ الأوّل يمقت الشعور بالنشوة ويسعى بأن يبلسم جراح نفسه من خلال تجربة الألم، أما ثيسيوس فيبقى مشرق الروح قانعاً بما حصده من الملذّات غير عابئ بذنوبه، وقد اختلف في هذه الأحاسيس الفلاسفة مثل نيكولا مالبرانش وإيمانويل كانت والكاتب فولتيير.

 

أجاد طه حسين استنكار الفلسفات المطلقة فهو يستعرض الأساطير ويعرض عنها باستثناء الفلسفة المقنّعة التي تعبّر عنها حواشيها، منطلقاً في سجايا الأحداث الخارقة التي تبرهن بأنّ الوقائع الميتافيزيقيّة للتراث التاريخي هي أيقونة الأدب وانطلاقة لعصب الفلسفة بأنواعها، ومحرّراً الفكر من بقايا تشبّثهِ بالمستحيل، إذ تكون هذه الرواية عظة أخلاقيّة وفلسفيّة تعكس مرآة علم الاجتماع الحافل بتناقضات الحواس.

theme::common.loader_icon