"كهف القارئ" بين فينومولوجيا النقد وسيميولوجيا الرموز الانسانيّة
"كهف القارئ" بين فينومولوجيا النقد وسيميولوجيا الرموز الانسانيّة
نسرين بلوط
Saturday, 22-Jun-2024 07:04

لا ريبَ بأنّ الأدوات اللازمة لتشكيل نصٍّ نقدي لا تتوافرُ معاولها الدقيقة بسهولة، ما لم يغرسها الناقد في فلسفة الحدائق الكونيّة التي تهِبُ من منابع الحياة (وهي التراب والماء والهواء) سرَّ الوجود، وتتشكّلُ على هيئة تساؤلاتٓ وطرحٍ جدلي، وترجيحاتٍ متوثّبة لعرض الشك واليقين ممّا يعوّل عليها، وتحليل الصيرورة والديمومة للفكر البشري.

وفي كتاب «كهف القارئ» للناقد كه يلان محمد، تلالٌ متدرّجةٌ من المعارف الأدبيّة والثقافيّة بنكهة الفلسفة التي تلازمه في كلّ منعطفٍ مرجعيّ وتثقيفيّ يعبره، وكأنّنا ندخل إلى كهف الهاجعين في قصّة وردت في الكتب المقدّسة ردحاً من الزمن، ونبصر النور الربّانيّ يشعّ من ثنايا الفوهات الضيّقة في كهفهم السحري، والسماء في الخارج تغزلُ ندفاّ من قطنٍ أبيض تظلّل مأواهم لتحميهم من هبّات البرد ونفحات القيظ ومزاجيُة الفصول، وتترجم فحوى رسالتهم على اتّساع الأزمنة، هكذا يعيدنا كه يلان محمد إلى تاريخ الفلسفة وتأثيرها المسلّط على الأدب وفحواه، وبحتجز في أعماقه فلسفة وجوديّةً تطغى على محور مقالاته، بالرغم من محاولاته تثبيت نقده العملي وعدمَ اقحام رأيه الذاتي أو فرضه في النص.

 

الكتاب يتضمنُ عدداً من المقالات التي تشدّ الابداعَ بكلّ مجالاته ونواحيه إلى عنق الفلسفة الوجوديّة والتنقيبيّة، ففي نصّه «تشابك الرواية والصحافة» مثلاً، يربط الكاتب محمد تقنيّةَ الرواية بالشغف الصحفي أو العمل فيه، ويقدّم البراهين التي تدعم رأيه، فيذكر الكاتب المحنّك أرنست همنغواي صاحب «الشيخ والبحر» والذي قدّم فلسفةّ رواقيّةً خلّابة تسرّ الناظرين في رحلة تشاكسه طيلة الوقت ولكنّها تعلّمه أسرار الحياة وأعاجيبها، فيذكر بأنّه قام بتغطية أحداث الحرب الأهليّة في اسبانيا، ممّا أكسبه الأسلوبَ التلغرافي الذي تنتهي معه الجمل في وميض مبهر ومختصر، ولكنّ الناقد أغفل جانباً هامّاً من الانعكاس المقيت الذي خلّفه عمل الصحافة في حياة همنغواي وتأثُره بالانطولوجيا القاتمة للحرب، وفشله المتكرّر في علاقاته العاطفيّة والاجتماعيّة وظنّه الدائم بأنّ مكتب الفيدراليّة يقوم بمراقبته لاشتباهه بإقامته صلات مع كوبا، وهكذا زلزل الجانب الاعلامي والسياسي كيان همنغواي وألقى به إلى حافّة اليأس المقيت لتحضر فلسفة هيدغر التي تتمركز فكرته حول عقيدتين، هما الحياة والخوف من الموت.

 

أمّا ماركيز، فبالرغم من انغماسه في العمل الصحفي الشيّق، فقد ظهرت مقالاته الصحفيّة في كتابه «فضيحة القرن» الذي صدر له، غير متوازية ومتناسقة مع درجة الابداع الذي حظي به في رائعته «مئة عام من العزلة».

 

ولكنّ الجانب الذي لا جدل فيه هو أنّ ولَهَ بعض الروائيين في التتبُع الدائم للأخبار الصحفيّة ونقلها عن الشارع لأبرز معاناته ومآسيه، أمثال نجيب نحفوظ وباتريك موديانو وغيرهما، قد ساهم في رفع أسهم الابداع لديهما في بورصة الأدب والتفكُر واستخلاص حكم الحياة.

 

باختصار، فإنّ الأابداع الروائي أناني متفرّد، لا يحبُ مشاطرةَ آفاقه مع أيّ من الآماد الابداعيّة الأخرى، حتّى يتفرّغَ للوحي الداعم للسرد والتسلسل الدقيق فيه. ولكنّ الناقد كه يلان محمد يرى عكس ذلك، ويبقى الرأي الأخير برسم الطرح على كتّاب الرواية.

 

وفي نص آخر عن نيتشه «فيلسوف المطرقة»، والذي جاء بعنوان «نيتشه فيلسوف مغترب في زمنه»، وعن السيرة الذاتيّة لنخبة من فلاسفة أوروبا التي تناولها الكاتب الأميركي «لانس أولسن «، يغوص الناقد كه يلان محمد في شفرات ملغّزة لسورياليُة نيتشه، في كتابه «هكذا تكلّم زرادشت»، والذي كان بمثابة مطرقة فلسفيّة تزعزع السلام الداخلي للفلسفات الأخرى، وتترك الإنسان الذي يستعين بقوى خارجيّة مجبراً على الاستغناء عنها والايمان بقدراته الخارقة وتفوّقه الباهر ومواجهة نفسه وتحدّيها، حتى يطبّق نظريّة السوبرمان التي سبق وانتقدها سارتر. والمدهش أنّ كتاب نيتشه لم يُقبل عليه القرّاء عند نشره وبقي في الظلّ حتى لاقى في ما بعد نجاحاً مدوّياً حصد زلزالاً فينومينولوجياً تفوّق به على هوسلر. كذلك تناول الناقد الجانب الأنثوي من نيتشه الذي اكتسبه لكونه الرجل الوحيد في الأسرة، مما جعل علاقاته بالمرأة تتعثر وتتخبّط بحواجز معنويّة. وعن علاقته بهتلر الذي كان يستشهد بأقوال نيتشه التي وجد فيها حطباً لإشعال نرجسيّته وفخره اللامحدود بنفسه .

 

كتاب «كهف القارئ» يضمّ مقالاتٍ ونصوصاً تصطبغ بلكنة النقد وتتجمّر بلهب الوجوديّة، فهو يتناول الرواية وعلاقتها مع الوعي الجديد وهويّة الفرد، والبنية السجاليّة فيها والرهانات عليها، ويغوص في الأدب والبيئة الافتراضيّة بالاضافة إلى مقالات نقديّة جمعها من حصالة قراءاته المتنوُعة والمكثّفة.

 

كه يلان محمد كاتبِ فضوليٌّ شغوفٌ بماورائيّات الفلسفة، يتحسّر على دور الناقد كما فعل في مقاله «هل اتتهى دور الناقد»، في تجزئة المطلق الذي يغدو جزءاً من التفقّه السلوكي والنفسي للكتب، ويجزم من خلال قلمه أنّ الفلسفةَ تصنع كلّ المثاليّات والتطبيقات الاجتماعيّة والاقتصاديًة والسياسيّة في العالم، ويسدل بنقده المتعمّق الستارَ على آخر الاحتمالات الميتافيزيقيّة للوجود، متشبّثاً بالواقعيّة المفرطة، غارفاً عرق الدوالي المحنّطة للفلاسفة العظماء.

theme::common.loader_icon