نقاش من بُعد مع علي فياض (2)
نقاش من بُعد مع علي فياض (2)
شارل جبور
Thursday, 20-Jun-2024 07:07

يقول النائب علي فياض بصريح العبارة «إذا بدّك تضلّ تقلّي سلاحك بيرعبني وانا ما بدّي سلاحك لن نصل إلى نتيجة، لأن موضوع السلاح عندي هو موضوع وجودي، له علاقة بحاضري ومستقبلي»، فما الحلّ؟

صحيح انّ الحرب اللبنانية انتهت على وقع سخونة وحماوة فرضتهما حرب التحرير التي أعلنها رئيس الحكومة الانتقالية آنذاك العماد ميشال عون، واستجلبت التدخّل الخارجي الذي وجد ضرورة لإنهاء هذه الحرب تجنّباً لانعكاساتها السلبية على مستوى المنطقة، وما كان يُحضّر على نار خفيفة لإطلاق المسار التفاوضي السلمي بين العرب وإسرائيل، ولكن إنهاء الحرب بدفع دولي كان يتطلّب اتفاقاً بين اللبنانيين على تعديلات دستورية شكّلت مطلباً مزمناً للمسلمين، ونوقشت في مؤتمرات حوارية عدة، إلى أن وجدت طريقها إلى التنفيذ في اتفاق الطائف.

 

وبصورة أدقّ عالج اتفاق الطائف المشكلة بين المسيحيين والسنّة، التي بدأت مع دستور العام 1926، إن على مستوى المساواة في السلطة، او لناحية حسم نهائية الكيان مقابل عروبته. ولكن في زمن الحرب وغرق اللبنانيين بأزماتهم، نشأت ثورة إيرانية تمددية وتوسعية، واتخذت من لبنان أول موطئ قدم لنشر ثورتها داخل بيئة شيعية استفادت من إخراج إسرائيل للثورة الفلسطينية لتحلّ محلّها وتبدأ عملية السيطرة على القرار الشيعي، ولم يكن هذا الدور بشقيه الإيراني على مستوى المنطقة، والشيعي المولود من رحم الثورة الإيرانية التي انطلقت في العام 1979، قد تبلور مع اتفاق الطائف في العام 1989، وهذا ما يفسِّر رفض «حزب الله» لهذا الاتفاق من دون ان يكون لديه آنذاك القدرة على تعطيله او تغيير نصوصه.

 

فهناك حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهو انّ ثمة حالة شيعية لم تكن موجودة كمشروع سياسي في زمن المداولات لحلّ الأزمة اللبنانية في الطائف، وهذه الحالة ترفض التسليم بهذا الاتفاق، وعندما تحدّث السيد حسن نصرالله عن المؤتمر التأسيسي لم تكن زلّة لسان، وقد تراجع عنه بعد موجة الانتقاد الواسعة، ولكن تراجعه العلني لم يبدِّل في خطته الضمنية بإمساك القرار السياسي للجمهورية عن طريق الأعراف والتعطيل وصولاً إلى الحالة التكاملية بين دور الدولة ودور الحزب التي تحدّث عنها النائب فياض، والمقصود قوله انّ هناك وضعية مستحدثة لم تكن على طاولة النقاش في الطائف، وهذه الوضعية تقول بصريح العبارة، لن نسمح بدولة ضدّنا، ولن نسلِّم سلاحنا، ومن قادر على نزعه بالقوة فليتفضّل.

 

وبالتوازي مع الواقع المستحدث في لبنان والمتمثِّل بـ»حزب الله» الذي يمنع قيام دولة فعلية، وقعّت المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران على اتفاق بكين الذي أطلق مرحلة جديدة من الحوار بينهما، وعلى رغم العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، لم تقطع واشنطن خطوط تواصلها مع طهران، والمستجد الكبير هو «طوفان الأقصى» الذي سيعيد خلط الأوراق في الشرق الأوسط، ويستحيل ان تنتهي ارتداداته قبل ان تتخلّص تل أبيب من الدور الإيراني، ولكن من دون استبعاد اتفاق أميركي-إيراني-إسرائيلي، وبالتالي في خضم كل هذه الصورة يجب الإقرار بالحقائق التالية:

 

الحقيقة الأولى، انّ «حزب الله» لن يسلِّم سلاحه، وتسليم سلاحه يحصل فقط في حالة سقوط النظام الإيراني، ولا مؤشرات إلى سقوط قريب للسلطنة الإيرانية، وعدم تسليم السلاح يعني انّ اتفاق الطائف موجود بالشكل والاسم لتعذُّر الاتفاق على بديل، كما هو الحال منذ إقرار هذا الاتفاق.

 

الحقيقة الثانية، أنّ لا واشنطن ولا الرياض في وارد التصدّي اليوم للمشروع التمدُّدي الإيراني، وهذا الأمر متحوِّل طبعاً، بمعنى انّ التطبيع الراهن قد يتحوّل إلى مواجهة في المستقبل، ولكن في الواقع والحقيقة أنّ اللبنانيين الذين يعانون من التدخُّل الإيراني يفتقدون راهناً إلى الحليف الدولي والإقليمي.

 

الحقيقة الثالثة، انّ السياسة الانتظارية تحولّت إلى موت بطيء، وصحيح انّ «حزب الله» عاجز عن السيطرة المطلقة على لبنان، وهذا ما يفسِّر كلام النائب فياض عن قوة الصيغة، ولكنه يعلن الحرب من دون العودة إلى المؤسسات، ويعطِّل اي استحقاق لا يسيطر عليه، إلّا انّ قوة الحزب العسكرية في نهاية المطاف تقف عند حدود عدم قدرة أي مكوِّن على إلغاء المكونات الأخرى بسبب التوازن الديموغرافي. ولكن من قال انّ الفوضى والحروب وعدم الاستقرار تضمن استمرار هذا التوازن، وألّا يكون هناك نوع من استراتيجية لضرب هذا التوازن بالرهان على الوقت؟

 

ولم يتحدّث فياض عن تعديلات في الصيغة لمعرفته بحساسية هذه المسألة، إنما جاء ليقول بما معناه: هواجسي الوجودية كشيعي تتطلّب احتفاظي بسلاحي، وهواجسك الديموغرافية كمسيحي تتطلّب إقرار اللامركزية، فلنذهب إلى التسوية-المقايضة القادرة على تصحيح الخلل في اتفاق الطائف، وذلك في ظل أولوية السنّة عدم المس بدور رئيس الحكومة، وأولوية الدروز الدور وسط بيئة مستقرة، ولكن هناك أربع وقائع لا يمكن القفز فوقها:

 

الواقعة الأولى، انّ اتفاق الطائف أعطى المسيحيين اللامركزية التي كانت شرطاً من شروطهم في هذا الاتفاق، فلا منّة من «حزب الله» بلامركزية نصّت عليها «وثيقة الوفاق الوطني» وكانت مطلباً من مطالبهم الأساسية مقابل الموافقة على التعديلات الأخرى.

 

الواقعة الثانية، انّ اتفاق الطائف لم ينصّ على سلاح مقاوم خارج الدولة، ولا على مقاومة إسلامية، إنما الاتفاق السوري-الإيراني قضى بتسليم هذه المهمّة إلى الحزب بعد الانقلاب على اتفاق الطائف، وقد أتى النائب فياض مشكوراً ليقول بصريح العبارة: وجودي مرتبط بسلاحي..

 

الواقعة الثالثة، انّه لا يمكن بناء دولة مع «حزب الله»، ولا يمكن بناء دولة من دون «حزب الله»، وبالتالي هذه القوة موجودة، فكيف السبيل إلى بناء الدولة في ظل وجودها؟

 

الواقعة الرابعة، انّ هناك استحالة لبناء دولة حديثة وعصرية ومستقرة في ظل ازدواجية سلاح وقرار، والعراق يشكّل المثل الصارخ لفشل هذه التجربة، فلا اعتراض عراقياً مبدئياً على سلاح الميليشيات العراقية التي تقونن وضعها، ولكن الدولة العراقية الممسوك قرارها من طهران ينخرها الفساد وتعمّها الفوضى وعنوانها الفشل.

 

والمسألة ليست إهانة ولا تهمة، إنما تتصِّل بوقائع تاريخية يستحيل معها الجمع بين منطقين مختلفين تماماً، منطق الدولة وهو منطق متكامل، ومنطق الميليشيا او المقاومة، والتي لها منطقها المختلف عن منطق الدولة، وقد أُعطي «حزب الله» فرصة عمرها 19 سنة، ليبرهن انّه يريد بناء الدولة، وقد برهن العكس لأنّه بكل بساطة بقدر ما يتعزّز منطق الدولة بقدر ما يتراجع منطق المقاومة، والمنطق الأخير لا يعيش في وسط مستقر.

 

واللبنانيون، في مطلق الأحوال، أمام معضلة انّ «حزب الله» لن يسلِّم سلاحه، وانّهم أمام خيارين لا ثالث لهما: استمرار الصراع فصولاً، كون الاستسلام غير وارد إلى ان ينتصر أحد المنطقين، أو البحث عن تسوية مع الحزب على غرار تسوية العام 1943 ومن ثم العام 1989، ولكن ما يعرضه النائب فياض غير كافٍ بالتأكيد، فما المطلوب؟

 

ما هو ثابت وأكيد أولًا، انّ الدولة المركزية سقطت وانتهت إلى غير عودة، لأنّه لا وجود لدولة مركزية في ظل سلاح خارجها يقرِّر الحرب ويُمسك بالحدود، والصيغة العراقية غير قابلة للاستنساخ في لبنان.

 

وما هو ثابت وأكيد ثانياً، انّ المسيحيين في غير وارد التنازل قيد أنملة من حصتهم في النظام الحالي لمصلحة مثالثة او غيرها، وبالتالي اي بحث يجب ان ينحصر في الجانب اللامركزي.

 

وما هو ثابت وأكيد ثالثاً، انّه لا يمكن لأي مكون أن يقرِّر مستقبل لبنان من دون المكونات الأخرى أو على حسابها، ومن الضروري الحوار في هذا الجانب تحديداً وليس في رئاسة الجمهورية ولا في الاستراتيجية الدفاعية..

 

وما هو ثابت وأكيد رابعاً، انّ المقايضة بين اللامركزية للمسيحيين والسلاح للشيعة ما زالت مبهمة وبحاجة لتحديد طبيعة اللامركزية المطروحة، فإذا كان المقصود اللامركزية الإدارية فلا حاجة للنقاش ولا الحوار، وإذا كان المقصود اللامركزية المالية التي تصل إلى حدّ التشريع واستحداث المطارات والمرافئ والمشاريع المناطقية المستقلة، فالبحث يصبح ضرورة انطلاقاً من هذه النقطة بالذات، من أجل التفاهم على حُسن التعايش بين مقاطعات على أرض لبنانية واحدة يفترض ان تكون في حالة انسجام لا تصادم..

 

فالخطيئة الأولى ارتُكبت في العام 1920، والخطيئة الثانية ارتُكبت في العام 1926، والخطيئة الثالثة ارتُكبت في العام 1943، والخطيئة الرابعة ارتُكبت في العام 1989، فهل هناك فرصة جدّية لإعادة تصحيح الخطايا التي ارتُكبت بحقّ اللبنانيين من خلال جمهورية اتحادية تعيش فيها كل جماعة معتقداتها وخياراتها وقناعاتها ونمط عيشها في مقاطعاتها بعيداً من أحلام وأهداف حكم جماعة للجماعات الأخرى، وفرض جماعة على الجماعات الأخرى أفكارها ورؤيتها، وإصرار جماعة على تحويل كل لبنان على صورتها ومثالها..

 

وتبقى أخيراً ثلاثة أسئلة بحاجة إلى أجوبة: هل كلام النائب فياض يعبِّر عن قناعة وتوجّه ومسار، أم مرتبط بكلمة أُلقيت في ندوة وانتهت عند هذا الحدّ؟ وما هو السقف الذي يمكن ان يبلغه على مستوى النظام اللامركزي؟ وهل وصل إلى قناعة بضرورة الذهاب إلى تسوية تاريخية تحفظ دور كل جماعة وتبدِّد هواجسها الوجودية، أم انّه مجرّد مناورة سياسية لفريق يعتبر في عمق تفكيره انّه يملك أدوات حكم لبنان كله ولن يتنازل عنها، إنما سيواصل تشديد قبضته على مفاصل البلد كله؟

 

إنتهى..

theme::common.loader_icon