ماكس جاكوب خيميائي الشِّعر في هودج من السرياليّة
ماكس جاكوب خيميائي الشِّعر في هودج من السرياليّة
نسرين بلوط
Wednesday, 19-Jun-2024 06:50

لعلّه من أبرز الغيبيّات التي تقتفي أثرَها المدرسة السرياليّة على تنوّع فنونِها، هو هذا النحتُ المتواصلُ في الفلسفة السرياليّة التي تُعنى بتمثيل اللاوعي في العقل الباطني، الذي يقوم بتشريع حريّة التعبير عن النزعات الانسانيّة، مخلّعاً أصفاد المنطق والتعقّل، غارفاً من مضمون الفنون وليس قشورها الظاهريّة، وقد أسّس هذه الفلسفة الأدبيّة الكاتب الفرنسي أندريه بريتون، متأثّراً ربّما بنظريّة فرويد عن أهميّة اللاوعي في تحريك دفّة الأحداث والرغبات.

وقد جرف تيّارُ السرياليّة الشاعر والرسّام الفرنسي ماكس جاكوب، فتلظّت قصائده بنيران الرموز المتوارية خلف أسدال التعبير المُنكمش، الذي يَعبرُ من الفكر ليغوصَ في غموض التحليل، ويترك الباب موارباً للاحتمالات والتكهّنات.

وقد كان جاكوب مزاجيَّ الفكر، سريعَ التحوّل، ويضيقُ بما فرض عليه عند الولادة، ما دعاه لتغيير دينه من اليهوديّة إلى الكاثوليكيّة. كما انه تمرّدَ على القيود السياسيّة فتأثّر بحركة المقاومة الفرنسيّة، وسُجن من قبل الغيستابو ومات في السجن.

 

تبادلَ جاكوب رسائل وديّة أطّرت لصداقة عميقةٍ خالدة مع الفنان الاسباني بابلو بيكاسو الذي أنشأ المدرسة التكعيبيّة في الرسم، وكان لالتقاء المدرسة السيرياليّة والتكعيبيّة بينهما الأثر الصارخ لتحويل مسار الصداقة الى قضيّةٍ وطنيّة يؤمن بها كلاهما على اختلاف وطنيهما.

 

في قصيدته «قوس قزح» يقول: «كانت الساعة التي فيها يجعل الليل الجبال تئنّ/ الصخور السوداء تطقطق تحت أقدام الحيوانات/ العصافير كانت تفرّ من الأرياف المنكوبة/ لكي تقترب من البحر، من أفق أفضل/ الشيطان كان يلاحق شاعراً في ذلك الوقت/ الشاعر كان يحدّق في البحر مثل الموت/ ذلك أنّ البحر في هذا المكان كان يعفّر رأس جوين/ والبحر كان يقشّر جلد الصخور الهائلة الحجم».

 

هذه السلبيّات التعبيرية تتوخّى الحذرَ في الغوص في مناجم التشنّج التصويري، وتترك للغموض فرصة الانطلاق على سجيّته، فهو يشبّه نظرة الشاعر المُلاحَق من الشيطان بالموت، ويصف البحر وهو يقحم الصخورَ ويكشط عنها الكلس المتجمّد. وكأنّه يشير الى أنّ المشاعرَ الجليديّة تُذابُ بلمسة حنين، فيزال عنها البؤس.

 

أمّا الساعة التي تكون بمثابة العقاب الجهنّمي الذي ينزله الليلُ على الجبال، فترمزُ للموت الذي يشكّل مفهوم الحقيقة، وينزع قناعَ الخلود عن أوهام البقاء.

 

كانت جالا التي هجرت الشاعر بول ايلوار بسبب عشقها لسيلفادور دالي رائد السرياليّة، المُلهمة في أعماله. وبدوره وجدَ إيلوار راحته النفسيّة في كنف امرأة تُدعى نوش وتزوّجها. لكنّ جاكوب لم يعثر على هذا المحرّك الحقيقي للوحي الكامن في وجدانه، فاختارَ إلهام الطبيعة التي تنسم لعصف الجراح في نفسه العابقةِ بالشجن، وقد اختارَ رفاقه الرسّامين والأدباء ليعكس ظلّ ابداعه بينهم، ففي قصيدته: «الى الرسّام أميديو كليمنتي موديلياني لكي أثبت له أنني شاعر»، يقول: «السحاب هو البريد بين القارات/ كتاب الهجاء للمنفي والذي، مَحكوماً عليها من الجحيم بأن تتصارع باكية/ لا تتهجّاه المحيطات على برنيق الفضاء/القمة السوداء للجبال تنام على السقوف/ أخاديد يحفرها الله لكي يخفي البشر/ من دون أن يقرأ سر السحاب الذي يمرّ/ هو أيضاً لا يعلم أبداً ما الذي تحمله الأيدي/ لكن أحياناً حين تطرده عدوّته الريح/ يستدير، يزمجر، ويطلق قدماً من البرونز».

 

تظهر في هذه القصيدة عزائمُ شاعرٍ استطالَ ليبلغَ قممَ المجد، فيجعل كلّ عنصر من الطبيعة كائناً حيّاً يتنفّس ويتحرك ويسابق الريح، ليؤمن موديلياني بعبقريته وعمق رؤاه، فهو لا يريد أن يعرّف بنفسه لصديقه بنسبه وأصله وخصاله وتعليمه، بل جلَّ ما يريد أن يثبته أنه شاعر، لإيمانه بأنّ هذا اللقب يمنحه رفعةً لا تُقاوَم وجذوراً صلبة لا يندثر أثرها.

 

أما ما يميّز ماكس جاكوب، فهو رحلة البحث عن الشعر كما كتب باولو كويلو في روايته «الخيميائي» عن الراعي الاسباني سنتياغو الذي هجر الدنيا وارتحَل باحثاً عن كنوز الذهب، ليكتشفَ لاحقاً بأنّ ما يبحث عنه هو ميتافيزيقيا الكون.

theme::common.loader_icon