ها نحن اليوم معاً
ها نحن اليوم معاً
نسرين بلوط
Wednesday, 01-May-2024 06:56

في ملحمة غرناطة شَجْبٌ هزيل.. كأنّ السُدَفَ الزاحفَ برؤى القلب يهرول بشحوب العمر بعد زوال.. يتجرّع من غشاوة الندى الذي خلّفه المطر الهارب لوناً رماديّاً كصحوة الموت أو تحجُّرِ الصوت ويمضي عارياً من الضوء.. خسوف القلب على بحر الحنين تجرّع من وغى الخمر بعثته أبالسة الذكرى مسقطاً للغروب.. وحيدة هي تركض على شطآن مرمريّة تبلّلت بريق الموج وتلوّنت بلازورد الحب العابر.. أنظرْها إلى يوم يندمون.. غريبة مثل الطير المسافر بين الأوطان لا وجهة أخيرة تحتضنه ولا قبلة للريح توجّهه، تمدّ كفّها ويكدّ دمعها لتمسك خاصرة العمر وتدخل تاريخ غرناطة بهزيمة منكرة.. «إنّكِ لمن المنظرين.. ها نحنُ اليومَ معاً.. دَائِرَةٌ ضَوْئِيَّةٌ لِلْوَهْمِ، تحْتَبِسُ الجُّرْحَ الّذي بَدَّدَتْهُ الرّيحُ عاموداً من غَرَقٍ بائِنٍ كالدّخّانِ الأسود المُغْرَوْرَقِ الآثمِ يعْلُو زَبََدَاً مُتَمَاسِكَاً في عَيْنِ النّوْر.. يصفو مُظَلَّلَاً بِطَيرٍ عشْتارِيٍّ حزين، مطَوَّقَاً بِالشَّوْكِ والسُّمِّ والقلبِ المقهور، ها نحنُ اليومَ مَعَاً.. في حنينٍ وَاهٍ.. من عَهْدِ البابليِّ وَأَخْيِلَةِ الحروبِ . في مُلْكِ حمورابي وَصَمْتِ القصور.. أعدُُ خطاكَ على سبائِكِ الرَّمْلِ وأصْحو وحدي.. كأنّك لن تأتي أبداً.. تتسمّر العيون بهجةً تلوح لها خطاك متموّجة كالوهم على رمال الصحراء المتفانية في هذيانها.. ولا تبصر إلّا هسيس الصمت ينبلجُ من سجون الموج لرذاذها.. أنتظرُ بحرقة عاشقة تهشّم حلمها في حجر المرايا ورشقته آلاف الأيادي برمادٍ يذرّ الأجفان بالظنون.. مثل «أزادورا» التي عبرت النهر لتلقى عاشقها فغرقت في حصون أوهامها واحتضرت حسرةً على عشقٍ لم تهبه لها الحياة فزيّنه إليها الموت.. لن تتناهى لنبضك لهفتي ولن تهبني صوتك المتناغم مع لهيف الشمس لأوارها.. كأنّك لن تأتي أبداً.. يعزفها راعٍ على رَبابة الوجع لتنهمرَ عليه من السماء ريحٌ عاتية تجهرُ بالحنين، فيلملم بقايا أنغامه ويرتحلُ بها للسراب متيقّناً من الرحيل .. وتستيقظُ أزادورا» من مرقدها الملائكيّ لتهمس لي: «أنّكَ لن تأتي أبداً»..

 

لم يكن في بارقة اللقاء من خطف أمل.. ولكنّني انتظرتكَ ساهيةً كالوجد المعتّقِ في حنجرة طيرٍ وشوشكَ عنّي.. كنتُ أعلمُ أنّ الضفّة الخاليةَ لنهرِ الوحدة تنتظرني مثل كلّ صباحٍ غارب الأهداب لتتلقّفَ ضعفي.. فاخترقتُ حاجبَ الصّمت وحدّقتُ إليك.. كمارد الرّيحِ وقفتَ تسكبُ راحَ الفصول في أكفّ الشّجر.. التقت أعيننا وتفرّقت، ثمّ تشابكت وتشتّتتْ، ثمّ تلاشيتَ كلمح البصر مع سريان الرّعدِ بين أوردة الجبال التي لن أطالها.. حيث حضاراتٌ تعاقبت في عنق التاريخ وأساطير العشق خلّدت فيها لتعتبرَ القلوب.. لم يكن في لقائنا صفةُ العبور أو الحبور.. ولكنّ شوقي إليك هزمني.. وها نحن اليوم معاً.

theme::common.loader_icon