لم يشكّل اعتراف نائب رئيس الحكومة، وبصفته رئيس الوفد الحكومي المفاوض سعادة الشامي، في الذكرى الثانية للاتفاق على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي على برنامج إصلاح اقتصادي ومالي بـ «أننا لم نتمكن بعد من الوصول إلى اتفاق نهائي معه»، أي مفاجأة. لا بل عزز الشكوك في قدرة اهل الحكم على تحقيق أي إنجاز، عندما نعى تعهدات «الرؤساء الثلاثة في ذلك الوقت». ولما انتهى الى القول، انّه «لا يبدو أنّ اتفاقاً كهذا قريب المنال، لأننا لم ننجز إلّا الجزء اليسير من الإجراءات التي تخوّل لبنان الحصول على مساعداته»، فتح النقاش على ما هو منتظر في هذا الملف. وهذه عينة مما هو مطروح.
قبل الدخول في اي جديد متصل بمصير التفاهمات بالأحرف الاولى وعلى مستوى «الخبراء» او «الموظفين الكبار» بين صندوق النقد الدولي ولبنان، تجدر الاشارة الى انّ قوانين الصندوق تحظّر على السلطات التقريرية فيه فرض أي خطوات على أي دولة لا ترغب بها او لا توافق حولها، ولا قدرة له على فرضها، لفقدان أي وسيلة تؤدي الى هذه المرحلة. ولذلك فهو يشترط على أي دولة تطلب المساعدة ان تقدّم له بكل سلطاتها الدستورية الاجرائية والتنفيذية والتشريعية، بما في ذلك الاتحادات والنقابات العمالية والشبابية وهيئات المجتمع المدني، التعهدات الكافية قبل الإعلان عن أي تفاهم على قاعدة ما يضمن تنفيذها، وخصوصاً إن كانت هناك مترتبات مالية وديون يمكن إيفاؤها ضمن المهل التي تحدّدها أي اتفاقية بين الطرفين.
على هذه الامور البديهية لا يختلف اثنان ممن يعرفون آلية العمل في الصندوق بكامل مراحلها وتفاصيلها وخلفياتها العملية والمالية والادارية. وإن وقع أي خلاف حول هذه المعادلة البسيطة يتبين انّها نشأت بين حالتي «الغشيم - الجاهل» و»العالم - العاقل» بمثل هذه الحقائق التي لا تخضع الى اي تشكيك. ذلك أنّ التجارب السابقة التي خاضها الصندوق في أكثر من دولة احتاجت الى خدماته خير دليل. وان انسحبت هذه الحالات على الوضع في لبنان في ظل المواقف المتناقضة منها، ينبغي البحث عندها عن الخلافات الداخلية بين المسؤولين اللبنانيين ولجوء البعض منهم الى «تلبيس» شروطه إلى وفد صندوق النقد الدولي وتحميله ما لا يحتمله. وهو ما تسبّب بكثير من الخلافات حول بعض الخيارات المطروحة، وبات فريق منهم يتلطّى بشروط الصندوق متخطياً كثيراً من الحقائق. ولذلك فهو في مواجهة حتمية مع فريق آخر يتفهم ظروف العمل فيه. وهو يريد بطريقة ما ان يؤكّد رفضه ما هو مطروح توصلاً الى مرحلة اسقاط اي تفاهم يمكن التوصل إليه.
ويبدو انّ أصحاب النظرية الثانية يمتلكون اقتناعاً مسبقاً انّ في إمكان لبنان اللجوء الى مسارات وخيارات مختلفة تغنيه عن أي اتفاق مع الصندوق، وهي مدرجة على لائحة الاصلاحات المطلوبة منذ سنوات عدة رافقت ما تقرّر في مجموعة مؤتمرات «باريس الثلاثة» و»سيدر واحد»، وتبعده عن آلية عمل الصندوق وشروطه، وتوافر ما سيوفره إن بقيت الوعود محصورة بثلاثة مليارات من الدولارات التي في الإمكان تأمينها خلال السنوات الثلاث المقبلة ببعض الخطوات التي يمكن اتخاذها بـ «شحطة قلم جدّية» من خلال ضبط الحدود ووقف اعمال التهريب وسرقة المال العام واستخدام موارد الدولة ومرافقها بطريقة دقيقة ومضمونة، عدا عن الحدّ من التهرّب الضريبي وبنود اخرى تحدثت عنها أوراق الإصلاح المصرفي والتعافي الاقتصادي والمالي والنقدي والإداري.
ولكن ما يعتقده أنصار الاتفاق مع الصندوق يرون انّ اقتراحات المعارضين قصيرة المدى ومحدودة النتائج، ولا يمكن البناء عليها للمستقبل البعيد والمستدام، من دون ان يعني ذلك أنّها غير مطلوبة. ذلك انّه لا خلاف حول ما هو مطلوب الى جانب هذه الإجراءات، وهو يتصل بخطوات طال انتظارها اكثر من 5 سنوات، وهي تتناول قوانين «الكابيتال كونترول» لاستعادة النذر الوضيع من الودائع، و»السرية المصرفية» بما يضمن اهدافها، واعادة هيكلة المصارف بما في ذلك تصويب الوضع في مصرف لبنان بعد تحديد المسؤوليات ومن دون شطب ودائع المدخرين وتحميلهم الخسائر التي لم يكن لهم اي ذنب في طريقة إدارتها الى ان ضاعت او تمّ تهريبها الى الخارج او انّها سُرقت حسب اعتقاد كثيرين.
وامام هاتين المعادلتين لا يتجاهل العارفون انّ مثل هذا النقاش حول العناوين الاساسية لآلية الخروج من أنفاق الأزمة حصل مع مسؤولي صندوق ولم ينجز لبنان منها سوى التدقيق في حسابات مصرف لبنان عبر التقرير الذي اعدّته «الفاريز آند مارسال»، وقد حاول البعض منع الاستفادة منه او استغلاله لمنع محاسبة من حُدّدت هوياتهم او حمايتهم نتيجة الأخطاء التي ارتُكبت عن جهل وغباء او قصد فالنتيجة سيان. والى هذه المؤشرات لا يمكن لأصحاب الدعوة الى تجاوز أي اتفاق مع الصندوق أن يتجاهلوا أهميته والحاجة الماسّة إليه سعياً الى مرحلة يمكن بعد التوصل اليها، ألّا تقف الامور عند المليارات الثلاثة المحكي عنها، بل لفتح آفاق جديدة من التعاون الذي يحظى به لبنان مع الدول والحكومات والمؤسسات والصناديق المانحة، التي لا تعمل الّا بإشارة واضحة من الصندوق وتستند الى شهادته بقدرة لبنان على الإيفاء بالتزاماته على مختلف المستويات، وهي كلها رهن استعادة الحدّ الادنى من الثقة الداخلية والخارجية التي افتقدتها منظومة الحكم اللبناني.
والى ذلك، لا يمكن تجاهل انّ معظم من تعهّدوا بالاصلاحات منذ اندلاع الأزمة ما زالوا أنفسهم في مواقع المسؤولية باستثناء الفترة المحدودة التي تولّت فيها حكومة الرئيس حسان دياب المهمّة قبل إسقاطها، وهم من قادوا المفاوضات مع صندوق النقد وتحكّموا بكل الخطوات التي اتُخذت وأحجموا عن اتخاذ الأكثر أهمية منها، بعدما تحولت موضوع تجاذبات انهكت اللبنانيين في مختلف وجوه حياتهم ومنعت تحقيق اي انجاز وأغرقوا البلاد في مستنقعات الأزمات المتناسلة من قطاع الى آخر. ولم تقف الأمور عند تدمير هياكل الدولة لمجرد فشلهم في اتخاذ الخطوات التي تلت الانتخابات النيابية منتصف ايار 2022 وتشكيل حكومة جديدة بكل المواصفات الدستورية الى ان توّج المجلس النيابي فشله المتمادي في انتخاب رئيس للجمهورية، فباتت الدولة تُدار بمجلس نيابي «يعمل على القطعة» بأكثريات غريبة وعجيبة بتناقضاتها عندما تكون الأهداف محدّدة. وبحكومة تفتقر الى أبسط مقومات العمل، وبوجود المكلفين بالإنابة او بالوكالة في المراكز العليا الحساسة او بالتمديد المشكوك بدستوريته في المواقع العسكرية والأمنية قبل ان تأتي عملية «طوفان الأقصى» بالهمّ الأمني الذي قادت إليه حرب «الإسناد» و»الإلهاء» في الجنوب، لتضع البلاد امام خيارات خطيرة لا يمكن تقدير نتائجها ومآلاتها من اليوم.
وفي النهاية، يخشى الحياديون العارفون بخفايا الأمور ان تمرّ الذكرى الثانية وربما الثالثة والرابعة للاتفاق مع الصندوق مغلّفة بالأسى والحزن على مصير الاتفاق، ليشكّل محطة مفصلية تثبت عجز المنظومة غير الكاملة عن إدارة شؤون البلد وسلطاته ومؤسساته، الى ان ياتي الزمن بمن له القدرة على بناء ما هو مطلوب.