لا يزال لبنان يرزح تحت تأثير أزمته الاقتصادية، خصوصاً ان تداعيات نكبته المالية التي تظهّرت منذ عام ٢٠١٩ تُرخي بظلالها على كل عناصر الحياة في لبنان، ولا يُمكن الخروج منها إلّا بإصلاحات تضمن وضع خارطة طريق لحل مسألة الايداعات وايجاد وسائل تمويل مُستدامة للدولة اللبنانية.
بالإنتظار، أتت الاجراءات الحكومية، وتلك التي اتّبعها مصرف لبنان المركزي لتحدّ من الانهيارات التي اصابت لبنان. كان الخبراء الاقتصاديون والماليون يتوقّعون انهيارات اسرع لعدم وجود مصادر تمويلية للدولة، بعد إقفال مزراب «المركزي»، لكن قرارات حاكم المصرف المركزي وسيم منصوري وضعت الحكومة امام امر واقع: إبحثوا عن مصادر تمويل موجودة اساساً. وعليه، زادت الحاجة من مداخيل الدولة، الى حد تأمّنت فيه حقوق الشركات والمتعهدين العاملين والمتعاقدين مع مؤسسات الدولة: قطاع الصحة وتشغيل الكهرباء والاتصالات وجمع النفايات وغيرها، عبر دفعها بالليرة اللبنانية تدريجاً، ومن ثم قيام تلك الشركات باستبدالها بالعملة الاجنبية من دون اهتزاز في سوق الصرف.
في الوقت نفسه كان المصرف المركزي يؤمّن رواتب الموظفين في القطاع العام وحاجات المؤسسات العسكرية والأمنية بالدولار ايضاً، بما ساهم في ضبط الاستقرار النقدي الموجود ومنع تهافت الناس على العملة الاجنبية.
ثم حَلّت توترات امنية وسياسية داخلية، ووصلت منذ اكثر من اسبوعين الى أصعب امتحان لبناني عبر أحداث الجنوب المصنّفة في اطار الحرب الفعلية: اشتباكات مسلّحة مفتوحة في جبهة طويلة من الناقورة الى مزارع شبعا بمسافة 100 كلم وعمق 5 كلم، وسط حديث عن توسّع مُحتمل يفرضه ميدان جبهة غزة، وهو ما ولّد تداعيات صعبة، بوجود تهديدات نارية متبادلة: نزوح داخلي نسبي من البلدات الحدودية، مغادرة لبنانيين الى دول عربية وأوروبية، إلغاء حجوزات المغتربين، تجمّد القطاع السياحي والخدماتي، اجراءات شركة طيران الشرق الاوسط بسبب عقود التأمين، فرملة الاندفاعة الاقتصادية التي أطلّت في الاشهر الماضية.
وسط كل ذلك، مرّ لبنان في اصعب انواع التحديات التي يواجهها، فنجح لغاية الان بصمود الاستقرار النقدي المتوافر، في وقت ترنّحت فيه العملة الاسرائيلية الى حدود انهيار لم تشهده تل ابيب منذ ٣٩ عاماً، بخسارات يومية متتالية من قيمة الشيكل وتدخّل المصرف المركزي الاسرائيلي بحدود ٣٠% من اموال الاحتياط لديه للحد من انهيار العملة الاسرائيلية.
وبحسب المعلومات، فإن الحكومة اللبنانية اتخذت اجراءات لمواكبة اي مستجدات ميدانية خطيرة قد تُفرض على لبنان، خصوصاً في قطاعي الصحة والغذاء. وتحدثت مصادر مطلعة لـ«الجمهورية» عن جهوزية مصرف لبنان لاستمرارية دفع رواتب الموظفين بالدولار، وتأمين حاجات المؤسسات العسكرية والامنية ايضاً من دون تغيير، فيما لدى «المركزي» القدرة ايضاً على ابقاء الاستقرار النقدي قائماً من دون اهتزاز لأشهر مقبلة، وسط استمرار معادلة دفع الدولة اللبنانية مستحقاتها الخدماتية بالليرة اللبنانية، كما تجري الان، شرط ابقاء التعاون قائماً بين المعنيين في القطاعات الحكومية والمصرفية.
وتقول المصادر نفسها إن الإجراءات الحكومية معطوفة على خطوات «المركزي» نجحت في تخطي أصعب الامتحانات عملياً، واستطاعت وضع خطة طوارىء لمواجهة اي اشتداد ميداني مُحتمل، والهدف هو منع التفلت النقدي، إلاّ في حال حصول مفاجآت اقليمية غير قابلة لاستيعاب صدماتها اللبنانية، وهي أمر لا يزال مُستبعداً لغاية الآن.