مثل أي موضوع يُطرح في لبنان، حَظي التعاون مع بلومبرغ بقدرٍ كبير من التغطية الاعلامية، واصبحت كلمة بلومبرغ مرادفة للتساؤلات والقلق، وموضع نقاشات وخلافات، بين مؤيّد ورافض. فهل يستحق هذا الموضوع ويحتمل هذا القدر من الاهتمام؟
بداية، لا بد من التذكير بأن لا علاقة لبلومبرغ بما يجري من نقاشات في لبنان، بمعنى ان الموضوع في حقيقته يرتبط بقرار انهاء مرحلة، والبدء في مرحلة جديدة، تحتاج الى منصة تداول لتنظيم السوق. وبالتالي، سواء كانت هذه المنصة بلومبرغ، أو رويترز أو حتى بورصة بيروت، فإنّ النتيجة واحدة، ولا علاقة للمنصات بها، بل ان النتائج التي قد تتمخّض عن هذه النقلة، سوف تتقرر في ضوء المسار الذي ستسلكه التطورات الاقتصادية والسياسية. وما ستقوم به الدولة، وما لن تقوم به، سيظهر في السوق المالي، عبر «شاشة» بلومبرغ.
هناك مجموعة نقاط يمكن تسجيلها مع بداية المرحلة الجديدة، بعضها مطمئن، وبعضها الآخر يثير القلق. في الايجابيات البديهية، ما يلي:
اولاً - تقليص حجم الاقتصاد النقدي، وهو مطلب خارجي، ركّزت عليه واشنطن في الفترة الأخيرة، وتبلّغه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وحاكم المركزي بالانابة وسيم منصوري.
ثانياً - تساهم في خفض عمليات تبييض الاموال، في حال وجدت.
ثالثاً - تعيد السوق المالي اللبناني الى اتّباع المعايير العالمية المعتمدة، اي انها تسمح بمعرفة السعر الحقيقي لليرة بناء على العرض والطلب، وبناء على معطيات الاقتصاد.
رابعاً - تسمح بتتبّع حركة الاموال، وتخفيف المضاربات المشبوهة، المرتبطة بأهداف ربحية او بأهداف سياسية، وما شابه.
في النتيجة انها بداية عملية تحرير وتوحيد لسعر الصرف، والخضوع لمعايير السوق والاقتصاد في تحديد سعر الليرة. وهنا، لا بد من الاشارة الى معلومات تفيد بأنّ بدء عمل بلومبرغ سوف يترافق مع قرار بتوحيد سعر الصرف، وهذا يعني ان السعر الرسمي للدولار (15 الف ليرة) قد يتغير، وكذلك سعر سحب اللولار من المصارف (ايضاً 15 الف ليرة). وهذا يعني ان الهيركات على الودائع الدولارية الذي تنظّمه تعاميم لمصرف لبنان حالياً قد ينتهي. لكن من البديهي انه سيتم في هذه الحالة تحديد سقف جديد للسحب، أقل بكثير من السقف الشهري الحالي (1600 دولار). وهناك من يقول انّ السقف الجديد سيكون بما يوازي بالليرة، 200 دولار شهرياً. وبما ان السحب وفق التعميم 158 بات بدوره، يتم من دون هيركات، فهذا يعني ان كل انواع الهيركات لقاء السحب من الودائع، قد تنتهي مع البدء في تنفيذ الاجراءات المواكبة لبدء عمل بلومبرغ في السوق اللبناني.
وفي النقاط التي تثير تساؤلات، يمكن ايراد التالي:
اولاً - هل ستكون داتا المعلومات بين يدي الجهة اللبنانية التي ستشرف على حركة السوق المحلي، ام انها ستكون متاحة للجهات الاجنبية المشرفة على عمل المنصة؟
ثانياً - في حال صحّ ما يُقال عن وجود عمليات تبييض في السوق، فهل ان تقليص حجم التبييض بعد دخول بلومبرغ، سيتسبّب بضغط اضافي على الليرة، انطلاقا من انخفاض كمية الدولارات المعروضة؟
ثالثاً - كيف سيترجم السوق عجز مصرف لبنان عن التدخل، كما تفعل في العادة البنوك المركزية في العالم. على اعتبار ان تحرير سعر الصرف وجعله خاضعا لمعايير السوق (floating) لا يعني انتفاء دور البنك المركزي، الذي غالباً ما يتدخل لدوزنة السوق، ومنع الصدمات الكبيرة، ضمن هوامش مُحدّدة. هذا الدور قد لا يستطيع مصرف لبنان القيام به، بما سيجعل المواطن تحت رحمة السوق فقط. وهذا يعني انّ استمرار تقصير الدولة في القيام بواجباتها الاصلاحية سيدفع ثمنه اللبناني فوراً في سوق الصرف، من خلال تراجع في قدراته الشرائية، وزيادة التضخم.
يبقى السؤال الاهم والأبسط الذي يطرحه المواطن اليوم: هل سيؤدي دخول بلومبرغ الى السوق الى تراجع الدولار او ارتفاعه؟ وهل صحيح ما يُقال ان الدولار سيرتفع بسرعة الى اسعار قياسية وشبه خيالية؟
صحيح انه لا توجد اجابة واضحة، على طريقة ابيض او اسود، لكن ينبغي أن نشير الى ان السوق في الشهرين الماضيين كانت حُرّة تقريباً، بمعنى ان سعر الدولار شبه المستقر لم يكن اصطناعياً. وحتى الدولارات التي أمّنها المركزي للدولة، لم تكن نتاج ضَخ دولارات من الاحتياطي، بل تمّ جمعها من السوق. واذا استثنَينا عامل موسم السياحة الذي ساهم في ضخ دولارات اضافية، وعامل الدولارات التي ضخها المركزي حتى نهاية تموز، نستطيع ان نقول ان سعر الليرة بدأ يتظَهّر على حقيقته قبل بدء مرحلة بلومبرغ. وبالتالي، لا يفترض ان نتوقع مفاجآت كبيرة بعد بدء عمل المنصة. وبالتالي، وفي حال طال الوقت قبل بدء عمل بلومبرغ، لمدة 3 أو 4 اشهر فإنّ سعر الليرة الحقيقي سيتبيّن في السوق، في حال واصل المركزي سياسته الحالية. وبالتالي، عندما تبدأ بلومبرغ، لن يكون هناك تغيير في حركة السوق، ولا في سعر الدولار. لكن الخوف ان سياسة الدولة لم تتغير. وعندما تتغير السياسة النقدية، ولا تتغير السياسة المالية والاقتصادية، فهذا يعني ان مسيرة الانهيار ستستمر. وبالتالي، إنّ مسيرة انهيار العملة الوطنية تحصيلٌ حاصل، سواء كانت بلومبرغ موجودة او غير موجودة.