أحمد علي الزين، فلسفة إنسانيّة تخلبُ عزفاً في قصب السرد
أحمد علي الزين، فلسفة إنسانيّة تخلبُ عزفاً في قصب السرد
نسرين بلوط
Saturday, 19-Aug-2023 07:17

في رفعةٍ وجدانيّةٍ بحتة، يقتربُ الروائي أحمد علي الزين من تخوم الغابات البيروقراطيّة في السرد الهيكلي، فيعبّر فلسفياً في روايتيه «معبر الندم» و»العرافة» رغم الفاصل الزمني القائم كهيكلٍ صلب بينهما، عن نفحةٍ فلسفيّة تحمل مثقال الشرّ والخير على كفّ من سراب، فهو يستعرض الصعب والمستحيل وينقّب ليجد البديل، ولكنّه يقع في براثن النفس الأمّارة في السوء التي تفرض سطوتها على أبطال روايتيه وترسمُ شرارةَ الملتقى بينهما.

ففي رقعةٍ انطولوجيّةٍ تحملُ آثارَ خدوشٍ لملامحَ شاحبةٍ من الهجر الذي تتجرّعه الحياةُ جرّاءَ صراعها الخالد مع الموت، تتماوجُ أفكارُ الروائي أحمد علي الزين مخضّبةً بأطيافِ الحنين الذي لا يبرحه سرديّاً في روايته «معبر الندم».
هو يطمسُ معالمَ الارتباك البادي على شخصيّة بطله من خلال التقارب الذي ينسجه بين التعبير والفلسفة الظنيّة، ثمّ يظهرها طوعاً في سياق السرد، ليبتكرَ لعبةَ التجاذب والتباعد المسافي بين الراوي والمتلقّي، ويظهرُ بطله علي بصورة الانسان الضائع الذي خرج من الفردوس الموهوم الى آتون الجهنّمي المعلوم.


لقد فَقَد علي أبويه بعد أن تعرّضا لحادث اغتيال بعد الاجتياح الاسرائيلي على لبنان، وقد كان والده مفكّراً وكاتباً واعلاميّاً له سياسته الديموقراطيّة الخاصّة به وتوجّهاته وتطلّعاته، وكان مؤيّداً للحزب الشيوعي، ولكنّ القمعَ المستبد الذي يقيّد حركة الأقلام بأغلال التعنّت والتحريض أرداه صريعاً لإيمانه الخاص. وكانت أمّه فرنسيّة الأصل فورث عنها بعضاً من خصالها الجميلة ومنحته جواز سفر فرنسيّاً أعانه على رحلاته لاحقاً.


بعد تيتّمه يعيش علي في قرية جدّه « خربة النواح» في منزلٍ قرويِّ جميل، حيث تهدّه الوحدة التي يألفها في ما بعد، ولكنّ دخول هند إلى حياته يجعله يكتشفُ عالماً أنثويّاً جديداً تتحرّق إليه سنواتُ مراهقته ولكنّها تباغته يوماً بنيّتها الهجرة مع أهلها إلى ألمانيا ليشعرَ بأنّ الوجوه التي ترتاده في هبّات السعادة الآفلة لا تلبثُ أن تتفرّق من حوله وتتركه للعزلة القاتلة.
يهجرُ بعد رحيلها بدوره قريته ويسكن منزل أبويه في شارع السادات في بيروت والذي يقطنه صديق أبيه الراحل الجنرال جان كلود الذي هزمته الحرب فعقد يديه مرتعشاً من الغربة الروحيّة، وقد تملّى شعاعاً من ذكرياتٍ آفلة لأصدقاءٍ قُتلوا لأجل شغفهم بالحريّة.


تأخذُ الاحداثُ مجرى مباغتاً، فبعد أن يستقرّ علي في بيروت يصمّم جان كلود على الرحيل من دون أن يذكر وجهته، فيقرّر علي بدوره أن يرحل خارج البلاد ويستتبّ به المطاف فيصبح خبير آثار ومساعداً للبروفيسور موزار دابون في باريس، ولكنّه يأنف عن ارتشاف نبيذ النجاح عندما يقع في حبّ سلامة التي يصادفها في إحدى رحلاته في الأردن وفي سبيلها يتخلّى عن عمله. ولكنّه بعد سبع سنوات يعود إلى باريس ليجد أنّ أستاذه موزار قد مات نتيجة انفجارٍ في معمله. عند عودته إلى بيروت، يقرّر علي الانتحار، وهو المقدّمة التي يبدأ بها الرواية، يتخاذل قليلاً أمام قراره ولكنّه وحسب وصف الزين، يلقي بجسده من سطح الفندق الذي سكنه لينزف مثل الدغل الرّاجف، ويبتلّ بقطرات الحرمان الذي عانى منه منذ طفولته.


في رواية «العرّافة» يتّجه الروائي أحمد علي الزين إلى المزيد من التشعّب الفلسفي والنضوج المفصلي، في شساعةٍ من السرد وبلاغةٍ من التأمّل، فنلمحُ وصفه الدقيق لشخصيّة البطل سهيل العطّار الذي ورث عن جدّه اسمه وصندوقاً من العطر الذي يلفح الروحَ بمنديل النشوة، وتتلمذ على يد جدّته التي كانت تزخرف رسم العصافير وشكل الحروف على الفساتين، وقد شبّ ليعاني من رحيل زوجته سلمى على يد قنّاص الحرب وقد ارتمت بجسدها لتحمي ابنهما من وابل الرصاص ليبقى حيّاً، وغياب حبيبته العرّافة نهلة التي تعلّق بها بعد فجيعته بشريكة عمره، وفي آخر سنواته تعرّض لصفعةٍ مدويةٍ من ابنه الذي ربّاه بعد رحيل سلمى بحبّ لامتناهٍ، بعد أن تذمّر من الاعتناء به، فينتقل إلى غرفته في دار العجزة التي تسمّى «دار الفردوس» وتطلّ على ثلاث نوافذ، واحدة (حسب وصف الكاتب) تطلّ على قسم الأمراض النفسيّة، والثانية على المعهد الموسيقي، والثالثة هي نافذة للهجران والحنين.


يبلغ أحمد علي الزين السيل السرديّ الفلسفي الشارد بندوب الزمن، فيحدّث عن أصدقاء له في المأوى بعضهم كان من مجرمي الحرب والبعض الآخر من ضحاياها، ويسرد يوميّاته لطالباتٍ يعزفن على الآلات الموسيقيّة في المعهد، وكأنّ لسان الحوار بين الكاتب والموسيقي هو لحنٌ بحدّ ذاته ينفذ إلى مسامات الروح ويخزّن فيها الحنينَ الجارف، وتنتهي الرواية بنهايةٍ فلسفيّة تشبه عبور موسى للبحر عندما يشقّ آليّة الزمان والمكان بعصاه السحريّة فينفذ إلى زمنٍ آخر ومكانٍ آخر، ليبلغَ ذروةَ التوقّع الذي أنبأته به العرّافة نهلة ذات يوم بأنّ امرأة ستسكن نصف عمره الثاني بعد تحرّره من أسره الذاتي.
وهكذا بين الروايتين نجدُ هذا التصدّع النفسي الذي ينتفض في فكرٍ فلسفيّ بتكشيرة الظلال المحنّطة للشمس، يحلّل ليقتنع ولكنّه لا يجدُ ضالّته المنشودة لا في الانتحار كما اقترح البطل علي في الرواية الأولى، ولا في الهروب إلى دار العجزة ليخبّئ أحزانه كما فعل البطل سهيل في الرواية الثانية. ويبقى التشكّك قائماً في ذهنه وحاضراً في سرده، يفرضه نثارَ تساؤلاتٍ تتحاور مع نفسها لتعود إلى بعضها متشابكةً متآزرة، في قيلولةٍ عابرة لا تلبثُ أن تصحو من جديد على روايةٍ جديدة تفرضُ مذهباً انسانيّاً جديداً.


أحمد علي الزين كاتبٌ يضوّعُ أنفاس الفلسفة في جسد السرد ليضيء مراقدَ العتمة في البلاط الرماديّ للحياة، في أنفاسٍ محمّلةٍ بالصخب الرفضيّ للواقع، وقد نحتَ بأنامل الإبداع هدهدةَ التسبيحِ الإلهاميّ للأنفاس الروائيّة المحمّلة بنفحةٍ شاعريّة حتّى الصميم.

theme::common.loader_icon