لا شك في انّ الطريقة التي اعتمدها نواب حاكم مصرف لبنان في مقاربة ملف تسلّمهم دفة قيادة البنك المركزي بعد انتهاء ولاية سلامة في 31 تموز الجاري (بعد أسبوع)، انْطَوَت على كثير من العفوية والاخطاء بما أدّى الى تشويه صورتهم، وتشويه الافكار التي طرحوها حتى الان. وبالتالي، يمكن الجزم بأنّ نواب سلامة فشلوا، من حيث الشكل، قبل أن يبدأوا. وساهمت هزيمتهم الشكلية، في الانسحاب على مضمون الافكار التي تقدموا بها، الامر الذي ساهم ايضا في قلب المقاييس رأساً على عقب، وجَعلَ مشروعهم للقيادة يبدو وكأنه مشروع خطير او مَشبوه او غير واقعي، وسيؤدي الى كارثة اضافية ستنعكس مزيداً من المآسي على حياة الناس.
هل هذا الانطباع الذي تكوّن لدى الرأي العام صحيح؟ ولماذا وصلت الامور الى هذه القناعة وبهذه السرعة؟
الملاحظة الاولى التي ينبغي تسجيلها في هذا السياق انّ الحملة التي تُشنّ على نواب الحاكم ليست في مجملها عفوية، بل هناك مايسترو أدارَ اللعبة، وجَنّد الاصوات من أجل شنّ هجوم صاعق عليهم. لكنّ قسما كبيرا من الناس تَماهى مع هذه الحملة من دون ان يُدرك خلفياتها وأهدافها. وساهم موقف نواب الحاكم غير الثابت، وخَوفهم من المسؤولية، في إنجاح الحملة ضدهم. وقد استخدم رواد الحملة استراتيجية مثلّثة الأضلع، اعتمدت على النقاط التالية:
اولاً - تظهير الخوف لدى نواب الحاكم، وتصويرهم على انهم لا يتمتعون بالشخصية القوية لِتَحمّل المسؤولية، وقيادة السياسة النقدية في هذا الوقت الحسّاس.
ثانياً - التركيز على سعر صرف الدولار من خلال محاولة ترسيخ قناعة لدى اللبنانيين مفادها انه سيُحلّق بسبب السياسة التي سيعتمدها هؤلاء بعد 31 تموز. وتَبارى المحللون في تقدير الرقم القياسي الذي سيبلغه، وفي وقت قصير.
ثالثاً - الغَمْز من قناة المواقع المسيحية التي تخلو تباعاً ويتسلّمها أشخاص غير مسيحيين.
في موازاة هذه الثلاثية، كان يتم تمرير بعض الاضافات التي تساهم بدورها في تشويه صورة هؤلاء، مثل القول انّ بعضهم يستفيد من منصة صيرفة، او ان بعضهم استفاد من منصبه للحصول على قروض دولارية، استطاع تسديدها بالليرة...
كل هذه الاتهامات التي سِيقت ضد نواب سلامة قد يكون فيها شيء من الصحة في مكانٍ ما. إذ إنه من المعروف انَ هؤلاء يَستهيبون المهمة التي ستُلقى على عاتقهم، ويؤيدون إلغاء منصة صيرفة وصولاً الى تحرير سعر الصرف. كذلك من المعروف وجود جَو مسيحي منزعج من الفراغ في رئاسة الجمهورية، ومن ثم تسليم حاكمية مصرف لبنان الى غير مسيحي، ومن بعدها قد نصل لاحقاً الى قيادة الجيش.
لكن كل هذه المعطيات لا تُبرّر المبالغة في الحملة التي شُنّت على نواب سلامة، والتي تهدف في واقع الامر الى تكوين رأي عام مؤيّد للابقاء عليه في منصبه. وهذا الكلام لا يعني ان الابقاء على سلامة اليوم هو امر سيئ، ولكنه كلام توصيفي لِما يجري، ليس إلا.
ما يطلبه نواب حاكم مصرف لبنان من البديهيات التي ينبغي ان تكون الدولة قد نفذتها منذ فترة طويلة، لكن تقاعسها أوصَلنا الى هذه المرحلة. ومن سخرية القدر انّ الاصوات التي ترتفع للاعتراض على محاولة تحرير سعر الصرف، هي نفسها تحدثت في اكثر من مناسبة عن انّ تثبيت سعر الصرف قبل الانهيار كان واحداً من الاسباب الرئيسية التي تسبّبت بأزمة الافلاس. ومن سخرية القدر ايضاً ان يقول بعض النواب او المسؤولين انّ نواب الحاكم يطالبون بتشريعٍ يسمح لهم بالانفاق من الاحتياطي الالزامي، أي من اموال المودعين المتبقية. في حين انّ نواب الحاكم يقولون انّ مواصلة الانفاق من الاحتياطي غير قانونية، ولا يرغبون في مواصلتها. ولكن، وفي حال كانت الدولة بسلطتَيها التشريعية والتنفيذية تريد ذلك، فعليها ان تتحمّل مسؤوليتها وتُصدر تشريعاً يُقَونِن هذا الانفاق، ويرفع المسؤولية عن نواب الحاكم. والفارق بين المقاربتين كبير وشاسع.
الحقيقة الوحيدة المُرّة التي طَفت على السطح وتوضّحت اكثر مما كانت واضحة، هي انّ الدولة بكل تفرعاتها التنفيذية والتشريعية، لا ترغب في تَحمّل اية مسؤولية، ولا تريد ان تسمع ماذا تفعل ادارة مصرف لبنان، بل جلّ ما يريدون هو ان تتصرف هذه الادارة من تلقاء نفسها لتخفيف النقمة في الشارع ضد السلطة، حتى لو أدّت قراراتها لاحقاً الى تعميق الأزمة وسَلب ما تبقى من اموال الناس. وكل ما ستفعله الدولة انها ستغسل يديها لاحقاً من هذه القرارات، كما تفعل اليوم في موضوع الودائع، وتفتش عن كبش فداء تُحمّله المسؤولية، وكان الله يحب المُحسنين.