تعاطَت القوى السياسية اللبنانية باستخفاف مع الكلمة البالغة الأهمية التي ألقتها السفيرة الفرنسية آن غريو، في قصر الصنوبر، في العيد الوطني الفرنسي. وجاءت ردّات الفعل على السفيرة أقرَب إلى «التّمريك»، فيما جرى تَجاهل الأسئلة الكثيرة التي طرحتها، والتي تتعلق بمستقبل لبنان الدولة والكيان.
فالكلمة المُطوّلة والشاملة التي يبدو أنها أُعِدّت بكثير من التأني، حملت رسائل سياسية عميقة جداً. ويمكن القول إنّ الكلمة كانت بمثابة إعلان عن النهج الذي سيتبعه الفرنسيون في لبنان خلال المرحلة المقبلة.
إذا تمّ استبعاد القالب الديبلوماسي الذي اتّصَفَت به الكلمة، عموماً، فإنّ مضمون ما قالته السفيرة يصبح على الشكل الآتي: أنتم يا لبنانيون، ما كان لكم أن تستمروا على قيد الحياة، على الأقل في ربع القرن الفائت، لولا أننا حَشَدنا العالم من أجلكم وأنقذناكم بالمليارات من مؤتمرات باريس المتتالية. وحتى، بعد الانهيار المالي وانفجار المرفأ، نحن وحدنا في العالم وقفنا معكم، وأعَدنا الحياة إلى المرفأ، ودعمنا مؤسساتكم وقطاعاتكم وأطلقنا المبادرات، ونعمل لاستخراج الغاز الذي أنتم في أمسّ الحاجة إليه.
ولكن، كل هذا قابَلتموه يا سياسيّو لبنان بالجحود والإنكار. وقد رفضتم نداءاتنا ونصائحنا بالإصلاح، وأنتم تُعرقلون مبادراتنا التي نجهد لإنجاحها من أجلكم، وتخدعون شعبكم بالاستقرار الخادع وتُمعِنون في الفساد وإنتاج الأموال القذرة. وفوق ذلك، لا توفّرون فرصة لشن الحملات علينا، لأنكم ترفضون أي إصلاح.
يقول نائب مواكب للحركة التي يقودها الفرنسيون في لبنان: في الظاهر، أعلنت غريو أنّ فرنسا لم تيأس من محاولاتها إنقاذ لبنان مهما بلغت المصاعب. ولكن، في طيّات كلماتها، كانت تقول العكس: تَبيّن لنا أنكم بلد مَيؤوس منه!
أما وداعها للبنانيين فبَدا أكبر من وداع شخصي، لمناسبة انتهاء ولايتها كسفيرة، وأقرَب إلى وداع الدولة التي لم تعد موجودة عملياً في لبنان. وهو يُذكّر بالوداع الشهير الذي أعلنه الرئيس رفيق الحريري يوم مغادرته السرايا في 20 تشرين الأول 2004 إذ قال: «إني أستودِع الله هذا البلد الحبيب وشعبه الطيّب». وبعد ذلك بأشهر قليلة، جرى ما جرى في لبنان.
المواكبون للموقف الفرنسي يقولون إن «جردة الحساب» التي أعَدّتها السفيرة الفرنسية جاءت بناء على طلب الإدارة الفرنسية. والمقصود إسماعها للبنانيين، لعلهم يدركون ما تقود إليه المُكابرة ويوافقون على التسوية.
وفي تقدير باريس أنّ الوضع اللبناني مرشّح للدخول في حال من الفوضى والتحلل يصعب بعدها الإنقاذ، فيما كل القوى الإقليمية والدولية التي يُفترض أن تتعاون معها فرنسا لهذه الغاية مُنشغلة بقضايا أخرى. وهذا يُبقي باريس وحدها في ميدان المساعدة، عملانياً، لكن نجاحها مرهون بتخلي القوى اللبنانية عن شروطها وارتباطاتها الخارجية ورضوخها لمنطق التسوية.
وعلى رغم أنّ باريس استنفرت كل إمكاناتها مع العواصم المعنية بالملف اللبناني، فهي تدرك أن حظوظ التسوية تبقى ضئيلة حتى الآن، وهذا ما يثير خشيتها من تَعرّض الوضع اللبناني لاهتزازات مثيرة للقلق في المرحلة المقبلة. وفي تعبير أكثر وضوحاً، الفرنسيون مقتنعون بأنّ مهمة موفدهم لودريان في بيروت محكوم عليها بالفشل مسبقاً.
هل يعني هذا أن باريس قد تعلن فجأة انسحابها من الوساطة في لبنان ووقف مبادرتها؟
المواكبون للموقف الفرنسي يقولون إن لودريان لن يوقِف مبادرته أيّاً كان الظرف، وهو سيعود إلى بيروت مبدئياً بعد أسبوع، ولو من دون تغطية خارجية للتسوية، إذ لا نتائج عملانية أحرزها في اتصالاته مع لقاء الخمسة زائداً إيران.
وسيكون الهدف الأساسي من جولة لودريان الثانية هو تأمين حد أدنى من الاستقرار في لبنان، لإمرار مزيد من الوقت بالترقيع، انتظاراً للاستحقاقات الدولية والإقليمية التي ربما تُتيح التسوية. ولعل الرهان الأقرب هو التوافق على صيغة تضمن عدم الدخول في متاهات إضافية على مستويين: المال والأمن، نتيجة انتهاء ولاية الحاكم رياض سلامة في مصرف لبنان بعد أسبوعين، والعماد جوزف عون في قيادة الجيش مطلع السنة المقبلة، وثمة مصلحة للفرنسيين في انطلاق مسار التنقيب والاستخراج في ملف الغاز، إذ تريد شركة «توتال» تأمين الظروف الداخلية الملائمة لبدء التنقيب بعد شهر أو اثنين، وفق ما وعدت.
ويقول المطلعون: على رغم من أنّ فرنسا رفعت مستوى الضغط الذي تمارسه في الملف اللبناني، فإنّ لودريان يستبعد كثيراً أن يَدفعَ ذلك بالقوى السياسية في لبنان إلى الحسم. وفي أي حال، إن الجردة التي أعدّتها غريو كفيلة بالتذكير بما فعلته فرنسا من أجل لبنان والحَد من الحملات القاسية التي تعرضت لها أخيراً، خصوصاً على خلفية القرار المُتّخذ في البرلمان الأوروبي، والداعم لتطبيع إقامة النازحين السوريين في لبنان، حتى إشعار آخر.