طبعاً، من المناسب مناقشة زيارة ادونيس كلها، بأمسياتها ومحاضراتها ومؤتمراتها الصحفية في المملكة لأن ما قيل فيها،وما أثارته طبيعة الزيارة وخلفياتها قياساً بـ "ماضي" الشاعر من أسئلة حول موقف أدونيس من الشّعر الجاهلي وشِعر «عصور» الإسلام والأموي والعباسي وصولاً إلى ما بعد ذلك قديماً، وما هو الجديد في تلك المواقف إن على صعيد نقد تجارب الشّعر العربي الذي يَعتبر أدونيس أن الأسماء التي ينبغي أن تعيش منه قليلة، إبداعيّا وتجاوُزاً وتخَطّياً، أو على صعيد نقد التجربة الشّعرية الذاتية المكلّلة بأسئلة شِعرية وفكرية تتعلّق بفهم الحداثة المتجدّد مع الأيام، وهل ما كان ثورة «تشبه القفز في العتمة»كما قال يوسف الخال في أحد محاضر «خميس محلة شِعر» هي ثورة انتقلَت منَ العتمة الى النهار وماذا فعلَت بقفزاتها، والأهم الأهم هل أدونيس جاهز للبحث في تلك المرحلة لمعرفة ما إذا كانت لديه مراجعة جدية لنتاجه ونتاج الآخرين من مجايليه، والآتين بعدهم. فكل ما عرفنا عن جديده «النقدي» أنه يستبشر خيراً ببعض الأصوات الشعرية النسائية العربية الشابة من دون أن يُسمّي أحداً بالمرّة!
كل ذلك له وقت كتابة نقدية، آخر، والمُلِحّ هو من أية الطُّرْقِ أتى أدونيس إلى الشاعر صلاح جاهين رافعاً يده على كل الشّعراء العرب ونصّبُه «أفضل» من الأمير أحمد شوقي، الكلام الذي استدعى اعتراضات كبرى في البلاد العربية لدى الشّعراء والنقاد باعتباره رأياً غير سويّ أو متسرّع أو مجامِل في قضية لا تحتمل المجاملة ولا التسرّع إطلاقاً،سيما وأنها صادرة عن شاعر كبير ما اعتاد القاريء أن يقرأ له آراء أصغر منه، أو أصغر مما اتُّفِق عليه في الكتابة الأدبية عبر رؤوس أثّرت وتؤثر مثل أدونيس وأبعد انتشاراً، عن شاعرية أحمد شوقي ، فضلاً عن ان المقارنة مع صلاح جاهين في غير محلّها قطعاً الى درجة يمكن القول بالمحكية «إيش جاب ل جاب»!
لم يأت أحمد شوقي إلى الشّعر أميراً وكبيراً من خلف تعظيمات مجانية، أو من وساطات عليا ولا سُفلى، فالرجل منذ بداياته أطلق انطباعاً واضحاً عنه أنه مُجدِّد، عبر الدواوين التي نشرها، والقصائد التي كانت الصحف تنتظرها منه، وعبر تغييره الكثير من العادات التقليدية في الشعر، وصْفاً وتركيباً جمالياً ولغةً سلسة محمّلة بالمعاني المدهشة. والأبواب التي دخلها من المسرح إلى الأغنية إلى الدواوين نفسها كانت مشَرّعة على أن «صوتاً» من طبيعة الماضي جاء يخلق طبيعة شِعرية جديدة تأثرت بها أجيال لاحقة، وأكبرتها الأصوات المجايلة ، وليس بعد وقت طويل، كان أحمد شوقي حديث الأدباء والنقاد والصحافة في أكثر من بلد عربي من مصر الى لبنان الى العراق وحتى المغرب العربي.
واعتراضنا على بيته الشهير"والشّعر إن لم يكن ذكرى وعاطفة ..إلخ" لن يمنعنا من تقديره على قواعد أخرى للشّعر منها اللغة أولاً متينة ووليّنة ورقراقة، وثانياً على الخيال الولّاد المتدفق والبعيد غير المبهم، وثالثاً على المعاني الجديدة التي تبني عوالم مُحفّزة على إعمال العقل، ورابعاً الذكاء الفني الذي يبدو واضحاً في الصياغة وتوالي الأبيات ووحدة جوهر القصيدة ..
ثم.. لماذا قفز أدونيس إلى جيلٍ سبقه ،جيل أحمد شوقي لينزع عنه الأفضلية، متجاوزاً جيله هو كله بعدم إبداء أي رأي به (جيل أدونيس) وأيضاً الجيل الشّعري الذي تلاه في لبنان، حيث كان يعيش، وفي البلاد العربية حيث كان يقرأ في أمسيات أو يقيم محاضرات، اللهمّ إلّا إذا كان رأيه بتلك الأجيال موازياً لرأيه في الرواية العربية بالقول إن الرواية العربية توقفت مع نجيب محفوظ، أي أن الشعرية العربية توقفت أيضاً عند مجلة "شِعر" وروّادها!
امتدح أدونيس الجيل الشّعري (النسائي) الجديد اليوم،وأطلق رصاصات الإعدام على بقية الشعراء في أجيال متتالية،فضلاً عن إعدام الرواية والروائيات والروائيين العرب الذين تقول أغلب الكتابات النقدية أنهم في مرحلة ذهبية على أصعدة التأليف الإبداعي ونسبة القرّاء المرتفعة إلى حدّ قيل فيه أن هذا العصر في الآداب العربية هو عصر الرواية.
ولم ينهِ أدونيس الزيارة من دون أن يُعرّج على العراق الشّعري فينسف مهدي الجواهري لصالح مَحكيّة مظفّر النوّاب التي اعتبرها أهم من شعر الجواهري.. وهذا انحياز غير مسبوق عند أدونيس الى شِعر المحكية في العالم العربي وأسبقيته على الشعر الكلاسيكي بعد تقديمه محكية صلاح جاهين على كلاسيكية أحمد شوقي . هي الحرب نفسها التي خاضها أدونيس منذ خمسينيّات القرن الماضي ضد «القصيدة القديمه» حسب تعبيره شكلا ومضمونا .وبين شاعرية الجواهري بالفصحى الموزونة المقفّاة ومحكية مظفر النواب مسافة محسوسة ملموسة إبداعيًا تخطّاها أدونيس بشحطة لسان!
أعيد الإشارة الى إن آراء أدونيس في المملكة العربية السعودية، وفي كل ما قال،تحتاج حواراً جديداً معه يضع النقاط الضائعة على حروف فُسّرَت بألف شكل ولون، ورسمت علامات تعجّب لا يجوز اعتبارها كأنها لم تُقَلْ.
فما يقوله أدونيس ليس كما يقوله أي شاعر آخر، أو هكذا ينبغي أن يكون!