«نلبس بين الناس ثوب الرياء
ونحن في قبضة كف القضاء
وكم سعينا نرتجي مهربا
فكان مسعانا جميعا هباء
يا نفس قد آدك حمل الحزن
يا روح مقدورك فراق البدن
أقطف أزاهير المنى قبل أن
يجف من عيشك غض الفنن»
(رباعيات الخيام ـ أحمد رامي)
على الرغم من كل ما أثبت العكس على مدى أربعة عقود، ما زال كثير من اللبنانيين يجهلون أو يتجاهلون، عن ضعف ووهن، وربما كسل، طبيعة «حزب الله» الثابتة التأسيسية. هؤلاء المتجاهلون الغافلون يستندون إلى التصريحات الظرفية لمرجعيات الحزب، مصدّقين ما هو محض تقية، لمجرد اختراع تفاؤل أساسه العاجز عن المواجهة. هؤلاء يعتقدون بإمكانية التفاهم والتسوية على مستقبل لبنان بوجود الحزب فيه كعامل قوة لردع إسرائيل، أو كضامن لمصالح لبنان المُحدَثة مثل الغاز مثلًا، أو لأسباب أخرى متخيّلة تحميهم من تحمّل مسؤولية المواجهة بجوهر الأمور. الجوهر هو ما ردّده قادة الحزب في لبنان، كما قادة الخمينية في إيران، وأولهم إبراهيم أمين السيد، الذي قال وقت تأسيس الحزب «نحن لبنان في إيران وإيران في لبنان».
أفكار الإمام الخميني الثورية سنة 1979 ونجاح الثورة في إيران، شكّلا الملهم الأساسي لمؤسسي «حزب الله» الذي أعلن عن انطلاقه رسميًا سنة 1985، وإن كان قد بدأ نشاطه، تحت تسميات أخرى، على خلفية الإجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982.
لقد جاء البيان التأسيسي لـ»حزب الله» واضحًا من خلال إعلان الانتماء «لأمة حزب الله»، أي أمّة عابرة للحدود الوطنية، تجمعها رابطة الإيمان بولاية الفقيه الدينية والدنيوية، مع التزام كامل بتبعاتها السياسية والعسكرية. وهذا الالتزام ليس عرضة للتأويل أو التسوية مع المتغيّرات، فهو الثابت الاستراتيجي، وما يبدو غير ذلك ما هو إلّا التكتيكي. السعي إلى ضمّ لبنان وسوريا والعراق واليمن والبحرين والكويت وحتى السعودية، إضافة إلى كل مكان فيه شيعة مؤمنون بولاية الفقيه، إلى الجمهورية الإسلامية على أساس القواعد الفقهية والسياسية التي وضعها الإمام الخميني، هو الهدف الاستراتيجي الدائم لـ»حزب الله». والواقع الذي نشأ منذ ذلك الوقت، هو أنّ «حزب الله» ليس حزبًا تابعًا ينفّذ إرادة المرجعية السياسية الإيرانية كأداة في يد النظام الإيراني فحسب، بل إنّه، لاقتناعات عقائدية عميقة، أصبح جزءًا من التركيبة السياسية والفقهية والعسكرية الإيرانية. فبمقدار ما لإيران تأثير على «حزب الله»، فلـ»حزب الله» تأثير وتفاعل كبيرين على مختلف مستويات القرار الرسمي والفقهي وحتى الشعبي في إيران.
وهذا الواقع يشبه إلى حدّ ما الواقع الذي كان سائدًا بين الاتحاد السوفياتي وبين الأحزاب الشيوعية التي كانت تسير في فلكه على أساس أممية الاقتناعات الفكرية والسياسية. وقد دفع كثير من هذه الأحزاب أثمن التضحيات على مذبح التسويات التي كان يقوم بها الاتحاد السوفياتي من وقت لآخر مع بعض الأنظمة، وخصوصًا في ديكتاتوريات العالم الثالث.
وقد يكون التشبيه الآخر، هو الجاليات الناطقة باللغة الألمانية في أوروبا عشية الحرب العالمية الثانية التي استخدمها هتلر حجة لاجتياح النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا. بالنسبة إلى «حزب الله»، الرابط مع إيران يتعدّى التوافق السياسي والعقائدي إلى الرابطة الروحية والاقتناعات التي تتجاوز واقع الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرى.
هذا يعني عمليًا أن لا مجال في المدى المنظور، وفي واقع التوازنات الحاضرة اقليميًا، أن يتخلّى النظام الإيراني عن دعمه الكامل لـ»حزب الله» ماديًا وعسكريًا، كما أنّ الحزب لن ينفصل بأي شكل من الأشكال عن إيران، طالما أنّها بقيت تحت ولاية وكيل صاحب الزمان، أي الولي الفقيه. هذا الالتزام باقٍ حتى تحقيق أممية جديدة قائمة على مبدأ ولاية الفقيه، وهذا يُترجم عمليًا عن طريق إقامة إقليم في لبنان مرتبط كليًا بالجمهورية الإسلامية في إيران.
وعلى الرغم من ممارسة بعض التقية بخصوص هذا الموضوع، بقيت تصدر بين الحين والآخر تصريحات تؤكّد استمرار سعي هذا الحزب للانضمام إلى الجمهورية الإسلامية. ليس من الصعوبة الملاحظة أنّ محازبي هذا الحزب يعتبرون أنفسهم ينفّذون مشروعًا تتعدّى مفاعيله وأهدافه الطبيعية الإنسانية لتصل إلى نسبة هذا المشروع إلى الرغبة الإلهية (هذا الحزب ليس حزبًا آدميًا... إنّه حزب الله). وهذا يعني عمليًا، أنّ كل الوسائل المستخدمة إنما توجّهها هذه الإرادة الإلهية، ومن ضمنها التسويات المؤقتة حتى مع العدو، مثل ترسيم الحدود البحرية مثلًا. لكن المعطيات البشرية لن تؤثر في أي من الحالات على توجّه «حزب الله» إلى تحقيق أهدافه.
لكن، من نافل القول، إنّ هذه الأهداف لا يمكن تحقيقها بنحو مستقر في دولة تعددية، مستقرة اقتصاديًا ومسيطرة كلياً على قرارها العسكري والأمني ومتمسكة بالنظام الديموقراطي الحرّ كأساس للحكم فيها، لذا فالعمل على عكس هذه الأمور مطلوب دائمًا.
هذه الأهداف تصبح ممكنة في استمرار التسيّب في قرار الحرب والسلم، واستمرار وجود دولة ضمن دولة، واستمرار الإنفلات على الحدود، وغياب الإستقرار السياسي، والإمعان في الإفقار، وازدياد هجرة النخب الإقتصادية والعلمية والسياسية، والاستمرار في سياسة التيئيس والترهيب.
حينها يصبح ما تبقّى من الشعب مطواعًا إلى درجة يتقّبل فيها أي شيء ينقذه من التخبّط من دون أمل في استقرار. وهنا قد تأتي الحلول خارج البديهي السائد. لكن طالما أنّ الخضوع لمنطق ضمّ لبنان غير ممكن بسبب المقاومة التعددية، فقد يأتي الطرح السائد اليوم أنّ «الطلاق» هو أهون الشرور. لكن هناك من يقول، وبناءً على تصريحات واقتناعات سابقة، انّ «حزب الله» يسعى إلى ضمّ لبنان بأجمعه وليس فقط ضمّ مناطق تجمعات شيعة لبنان. كما أنّ تصريحات وخطابات سابقة للسيد حسن نصرالله، تحدثت عن كون جبل لبنان للشيعة تاريخيًا. لكن، على الضفة الثانية للبنان المنقسم عموديًا، نرى أنّ هناك رأيًا عامًا وقياديًا سياسيًا واجتماعيًا، يدعو إلى الطلاق، وإن كان مقنّعًا في هذه اللحظات بالدعوى إلى لامركزية موسّعة كمقدمة للطلاق، والطلاق المنطقي هنا يعني تقزيم لبنان الكبير ليعود صغيرًا!
قد ينتظر هذا الطرح المفتوح على كل الاحتمالات حدثًا كبيرًا، مفتعلًا أو عفويًا مرجحًا على خلفية النفوس المشحونة، وبما أنّ الوضع الإقليمي لم يتغير، كما أنّ «حزب الله» هو ذاته، فقد يأتي الحل على شاكلة اتفاق دولي ـ إقليمي بمشاركة إيرانية، لتحديد مناطق نفوذ معترف بها دوليًا وإسرائيليًا، كحل لعقدة كأداء. هنا، سيضمن «حزب الله» جزءًا من لبنان لا يشارك به أحد، لكنه يمكن أن يتحول بسرعة إلى جزء من الجمهورية الإسلامية، فتضمن إيران وصولها إلى البحر المتوسط باعتراف دولي.
قد يظن البعض أنّ الأمر مجرد تهبيط حيطان من سياسي يائس، وأنّ المعوقات الحالية ستمنع حصول ذلك لصعوبة تفصيل المناطق على القياس لكل قبيلة طائفية، لكن، ما الذي دفع أهل جبل لبنان المسيحيين إلى هجرته زرافات ووحدانا في الحرب؟ وكيف أُخلي الجنوب بأسبوع بعد الاعتداء الإسرائيلي سنة 2006، وقبله في الحروب المتتالية؟ وكيف أصبح نصف سكان سوريا اليوم خارج مناطق سكنهم الأصلية من دون احتمال عودة قريبة، وكيف هُجّر الفلسطينيون من قراهم... وهكذا، فإن لم يكن لبنان كله فلا بأس بجزء منه.