يتطلّع القطاع المصرفي إلى العام 2023 بكثير من الجديّة والترقّب لما يحمله من تحديات على أكثر من جبهة، هو على تماسٍ معها نظراً إلى موقعه ودوره في الدورة النقدية والمالية والاقتصادية للدولة اللبنانية، والصورة العاكسة لتقييمها السيادي في التقارير المالية والاقتصادية الدولية.
تلك التحديات لن تحمل عناصر جديدة مفاجئة للمصارف اللبنانية، بل مراحل متطوّرة من ملفات مصيريّة ووقائع ساخنة طبعت عملها «الروتيني» في العام 2022 والتي حمّلتها مسؤوليات «لا ناقة فيها ولا جمل» سوى أنها أقرضت لسنوات دولة مهترئة بالفساد والهدر... فكان المصير الأسود للمودِعين صغاراً وكباراً، ولإدارات المصارف التي فقدت كلياً كل مكوّنات الاستثمار وأرقام الربح وكل عوامل الاستقطاب، وأضحَت في مرمى الحجارة والنيران والتهديدات اليومية على خطورتها...
في العام 2022، حمّلت الحكومة اللبنانية القطاع المصرفي كامل الخسائر وصَوّرته رأس الحربة في قضم أموال المودِعين لتحوير أنظارهم عن مسؤوليتها التاريخية في الهدر وغياب سياسات الإنقاذ والإصلاحات الملحّة التي طالما طالبها به المجتمع الدولي ولا سيما مؤتمر «سيدر»... وعلى سبيل المثال لا الحصر ما سبق وأعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن الدولة سحبت حوالى 63 مليار دولار من أموال المودِعين بموجب مراسيم وقوانين، ومنها السلفات الدورية لمؤسسة كهرباء لبنان... وها هي اليوم تبحث عن تمويل من هنا وهناك لاستقدام باخرة فيول واحدة لتغذية المناطق بساعة واحدة يومياً من التيار الكهربائي ولمدة شهر أو شهرين على أبعد حدّ! هذا غيضٌ من فيض ما ارتكبته الدولة في حق شعبها بمَن فيهم المودِعين... ثم تنأى بنفسها عن أي مسؤولية في إطار سياسي مُحكَم.
السياق الاتهامي الذي استخدمته الدولة في حق القطاع، جعل من المصارف باباً لاقتحامات متتالية بعضها سلمي والبعض الآخر مدجَّج بالسلاح والتهديد والوعيد، ما هدّد حياة موظفيها وخلق في صفوفهم الرعب والخوف، الأمر الذي دفع بإدارات المصارف في الأشهر الأخيرة إلى اعتماد برنامج مشروط لاستقبال الزبائن وضمن مواعيد مسبقة، وتركيز العمل على آلات السحب الإلكترونية ATM.
هذه المشهديّة المحلية، قابَلها تحرّك خارجي من نوع آخر تُرجم في تقديم دعاوى قضائية في عدد من المحاكم الأجنبية، فكانت دعاوى رابحة لأصحابها، كبّدت المصارف ملايين الدولارات على حساب صغار المودِعين دون سواهم... الأمر الذي سَلَب المصارف سيولتها وهدّدها بالإفلاس.
كل هذه الوقائع أسعرت «كلامياً» وجوب إقرار مشروع القانون المعجّل الوارد في المرسوم الرقم 9014 الرامي إلى «وضع ضوابط استثنائية وموقتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقديّة» (كابيتال كونترول) الذي طالما نادت به جمعية المصارف قبل غيرها، لكن التطورات أثبتت أنّ مَن «يُجاكرها» في هذا الموضوع هو المعرقِل الأكبر لإقراره لاعتبارات لم تعد خافية على أحد،علماً أنه من المقرّر أن تعقد لجان المال والموازنة، الإدارة والعدل، الاقتصاد الوطني والتجارة والصناعة والتخطيط، جلسة مشتركة في العاشرة والنصف قبل ظهر اليوم الخميس بدعوة من رئيس مجلس النواب نبيه برّي، لمتابعة درس مشروع القانون، في حين يبدو أنه سيكون صعباً على المجلس، ومن ثم على حكومة تصريف الأعمال، أن تُنجز المهمة المطلوبة. وإذا كانت موازنة 2022 قد سُمح بإقرارها «بالتي هي»، وقانون السريّة المصرفية قد مرّ بتعديلات مقبولة من قبل صندوق النقد الدولي، فإن الإشكالية التي تواجه المجلس النيابي والحكومة الحالية في مشروع «خطة التعافي» معطوفة على قانون الـ«كابيتال كونترول»، تبدو شبه مستحيلة بالمعطيات المتوفرة حتى الآن على الأقل.
«حان الوقت لإعادة هيكلة القطاع المصرفي» عبارة تكرّرت في العام 2022، وسيبقى صداها بالتأكيد يصدح في أروقة أصحاب القرار في العام الجديد. فالحكومة ضمّت بند إعادة هيكلة القطاع المصرفي إلى لائحة الأولويات التي تستعجل إعداد مقارباتها ضمن مسار التعهّدات المُدرجة في الاتفاق الأوّلي مع بعثة صندوق النقد، بعدما قطعت الشوط الأول عبر إقرار التعديلات المطلوبة على قانون السريّة المصرفيّة ومجموعة القوانين ذات الصلة.
في غضون ذلك، تجد المصارف نفسها تحت ضغط مطالبتها بتأمين «الدولار النقدي الطازج» Fresh Dollar لزوم خطة إعادة الهيكلة... علماً أن مثل هذا التدبير يُتّخَذ في مرحلة نمو اقتصادي ومالي في البلاد وليس في ظل انهيار مُتنامٍ، في وضع سياسي سليم وليس في ظل فراغ رئاسي بدون أفق وحكومة تصريف أعمال تخضع جلساتها «الطارئة» لتهديد فقدان النصاب! من هنا لا توجد أرضيّة صالحة لتطبيق قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، فهل ينجح اللاعبون السياسيون في تنفيذه لغايةٍ مشتركة، فيما فشلوا ولا يزالون في انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة فاعلة؟! يبقى لسنة 2023 أن تفضح النوايا وتؤكّد الشكوك، ويتحدّد مصير القطاع والبلد معاً.