لم يكن اللقاء بين رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ووفد «حزب الله» سوى أوّل الغيت في مرحلة جديدة من العلاقة الثنائية التي صار مألوفاً إخضاعها الى الترميم والصيانة بعد كل انقطاع وتوتر.
حتى عندما ارتفعت حدة الخطاب قبل فترة، على وَقع الحملات الانتخابية، بادر أحد نواب الحزب إلى نصح زميل اشتراكي له من الصقور بأن لا يذهب بعيداً في التصعيد «لأننا سنعود الى التواصل والحوار بعد حين».
وهذا ما جرى فعلاً بعد اسابيع من انتهاء الانتخابات النيابية، حيث تمت استعادة «التبادل الدبلوماسي» بين كليمنصو وحارة حريك فيما يُفترض ان تكون هناك تتمة للقاء كسر الجليد الاخير، لا سيما انّ جنبلاط أوضح انه ينتظر أجوبة عن أسئلة وجّهها الى قيادة «حزب الله»، أثناء اجتماعه بالمعاون السياسي للامين العام حسين الخليل ومسؤول وحدة الارتباط والتنسيق وفيق صفا.
ولكن، ما هي دوافع الحزب لملاقاة مبادرة جنبلاط والتعاطي بإيجابية مع دعوته الى الحوار؟
يوضح العارفون انّ «حزب الله» انطلق في موقفه من الاعتبارات الآتية:
- ان الحزب لم يتخذ اصلاً اي قرار بالذهاب الى قطيعة مع «الاشتراكي»، وحتى في عز التوتر السياسي بقي التواصل مستمراً عند الضرورة في مجلس النواب بين اعضاء في كتلتي الطرفين، علماً ان الحزب كان يتوقع استنادا الى التجارب من جهة والى إشارات جنبلاطية من جهة أخرى ان تطوى صفحة التشنج مع انتهاء الانتخابات النيابية وانتفاء الحاجة إلى الخطاب التعبوي.
- انّ جنبلاط هو مَن أخذ المبادرة الى الانفتاح، وكان من الطبيعي ان يتجاوب معها الحزب لأنّ استراتيجيته محلياً ترتكز على تعزيز الاستقرار الداخلي ومحاورة الآخرين إن ارادوا، مُنطلقاً من قاعدة انه كلما صار خصومه اقل او سلوكهم مضبوطا، كلما انعكس ذلك إراحة له في الداخل وفي المواجهة مع الأعداء الخارجيين.
- ان الاستحقاق الرئاسي القريب يستوجِب التشاور مع أوسع مروحة ممكنة من القوى السياسية، و»الاشتراكي» من ضمنها بطبيعة الحال، سعياً الى مقاربة مشتركة لهذا الاستحقاق، خصوصا ان الحزب وحلفاءه باتوا لا يملكون اكثرية صريحة كتلك التي كانت في حوزتهم في المجلس السابق. وبالتالي، لا بد من محاولة إيجاد تقاطعات حول مرشح يحظى بأكبر دعم ممكن، حتى يستطيع الوصول إلى قصر بعبدا.
- ان الرئيس نبيه بري هو حليف «حزب الله» وصديق ابي تيمور، وكان من المتحمسين لتقاربهما، وبالتالي فإنّ هذا العامل شجع بدوره حارة حريك على رد التحية الجنبلاطية بمثلها.
اما المحيطون بوليد جنبلاط فيؤكدون ان انفتاحه المستجد على «حزب الله» ليس «تكويعة» كما اعتبره الكثيرون، بل هو تَمايز في الموقف، «انما من دون التخلي في الوقت نفسه عن مقاربته المعروفة للنقاط الخلافية الاستراتيجية، مع الاخذ في الاعتبار ان معالجتها الآن غير ممكنة ولا بد من معاودة تنظيم الخلاف في شأنها والفصل بينها وبين محاولة إيجاد حلول لإشكاليات وازمات أخرى هي اقل تعقيدا وحساسية».
ولا يوافق المواكبون لمسار جنبلاط على أنّ ليونته حيال الحزب نابعة من رهان على تحولات خارجية تتعلق بمفارضات فيينا او غيرها، بل هي تندرج اولاً، وفق رأيهم، في سياق اقتناعه بأن لا مفر من التلاقي في نهاية المطاف «وان التركيبة اللبنانية تحتّم هذا التلاقي، فلماذا لا نبادر اليه بأقل كلفة ممكنة بدل ان يحصل لاحقا انما بعدما تكون كلفة الوقت الضائع قد أصبحت اكبر على البلد المُنهك؟».
وفي ما خص التطورات الخارجية، لا بأس أيضا، في رأي المحيطين بجنبلاط، من مواكبتها واستباقها، فإذا اتخذت المنحى الايجابي تكون الأرضية الداخلية جاهزة لتلقّفها والبناء عليها واذا اتخذت المنحى السلبي تكون تلك الأرضية محصّنة بالحد الأدنى للتخفيف من التداعيات.
بالنسبة إلى جنبلاط لا مفر من التفاهم على رئيس وسطي من خارج ما كان يُعرف بـ 8 و 14 آذار، لأنّ «توازن الرعب» في المجلس لا يسمح لاي جهة بفرض رئيس تحد، إضافة إلى ان مواصفات البطريرك الماروني بشارة الراعي وضعت اصلاً مرشحي الاصطفاف الحزبي خارج السباق وهم سمير جعجع وجبران ياسيل وسليمان فرنجية.
امّا إصرار جعجع على رئيس يرمز الى التحدي فيضعه القريبون من جنبلاط في سياق الاستهلاك السياسي ورفع السقف لتحسين شروط التفاوض على الرئيس المقبل، «ولكن هو يعلم انه من المستحيل ان يصل مثل هذا الرئيس الى قصر بعبدا في ظل التوازنات الحالية».
ومع ان اللقاء الديموقراطي لم يُسمّ نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة خلال الاستشارات الملزمة، الا ان ذلك لا يمنع القريبين من كليمنصو من الاشارة الى ان نموذج تسمية ميقاتي يمكن تعميمه على الاستحقاق الرئاسي، «إذ وكما حصل تقاطع حوله سمح بمروره الى السرايا بعيداً من الأسماء النافرة على ضفتي الانقسام الداخلي، يمكن أن يتم مثل هذا التقاطع حول رئيس مقبول للجمهورية، يستطيع إعادة مد جسور التواصل مع الخارج، غير استفزازي، يقف على مسافة واحدة من الجميع ولا يتآمر على احد في الداخل، اي ان يُطمئن «حزب الله» ويوحي له بالثقة الضرورية».
من منظار كليمنصو، كل فريق يستطيع تعطيل النصاب اذا اقتضت مصلحته ذلك، «ولكن فاتورة مثل هذا التصرف ستكون باهظة جدا هذه المرة، والى الحد الذي يفوق قدرة اللبنانيين على التحمّل وسط الانهيار المتفاقم في جميع المجالات. وبالتالي، لا يجوز بتاتا تكرار سيناريو التعطيل الذي سبق انتخاب ميشال عون لسبب بسيط وهو انّ الظرف اختلف اقتصاديا وسياسيا، وما كان ممكناً من قبل لم يعد كذلك الآن».