صدر عن قضاة لبنان الذين أعلنوا الإضراب عن العمل البيان الآتي: "متى عرفنا التاريخ وتعلمنا من تجاربنا السابقة، باتت مواجهة الحاضر غير عصية أبداً وأمسَى طريق المستقبل واضح المعالم.
منذ الإستقلال، لم ينجح المشترع في سنّ قانون يكرس استقلالية السلطة القضائية فعلاً وواقعاً ويحقق مبدأي الفصل بين السلطات والتوازن في ما بينها بالرغم من حاجة المجتمع الماسة الى مثل هذا القانون الذي يوفر للمواطن الضمانات اللازمة للعيش في كنف دولة تستأهل الإنتماء، وفي الماضي القريب، دقَّ القضاة ناقوس الخطر في العديد من المرات محذِّرين من أن ظروف العمل قد لامست خط التعذر من دون أن يلقوا آذاناً صاغيةً من السلطة التي تعمَّدت التجاهل في التعاطي مع مطالب القضاة المحقة، وذلك مرده إلى عددٍ من الأسباب أهمها: الرغبة المتعطشة لتقويض القضاء وإخضاعه وإذلاله على الدوام، وعدم وجود إرادة حقيقية لقيام قضاء قادر غير عاجز.
وبالفعل، فقد بلغ السيل الزبى وأمسى التوقف النهائي عن العمل خياراً لا بد منه ومناصاً يتعذر اجتنابه.
وانطلاقاً مما تقدَّم، يتوجه قضاة لبنان إلى الرأي العام بهذا البيان ليس من باب التبرير أو طلباً للتعاطف، بل من أجل وضع الأمور في نصابها الصحيح تحقيقاً للمصلحة العامة وحفاظاً على ما تبقى من أشلاء دولة وحطام مؤسًّسات.
إن حملات التضليل مستمرة وفبركات بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي ممنهجة، وهي تهدف إلى ضرب هيبة القضاء والنيل من كرامة القضاة. فالحديث عن وعود وهندسات مالية ورشى عارٍ من الصحة، جملةً وتفصيلاً، وإلا فلماذا التوقف عن العمل؟
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن راتب القاضي الأصيل الذي أمضى في الخدمة ما يقارب الأربعين عاماً لا يتجاوز الثمانية ملايين ليرة لبنانية، خلافاً لما يُشاع من أخبار ملفَّقة تمسُّ السُّلطة القضائية في الصميم.
وإلى الشعب المقهور نعلن: أنهم نجحوا في تقسيمكم إلى قطاعات ومِلل: قطاع عام وقطاع خاص، موظفون ومتعاقدون، مدنيون وعسكريون، وكل ذلك في سبيل إلهائكم في مصالح وزواريب ضيِّقة وتشتيت انتباهكم عن القضية الأساس ونعني بها دولة الحق والقانون، التي لا قيامة لها إلا بسُلطة قضائية مستقلة وفاعلة.
من هنا لا بُدَّ من النهوض، فقد آن الأوان للوعي والاستفاقة، وحان وقت السعي والمثابرة، ولا بد من قول لا، لا لشريعة الغاب بعد اليوم، لا للتحريض والتقسيم بين أطياف المجتمع، لا للعمل بالسُّخرة لأي كان، لا لإرضائنا بفُتات من هنا أو هناك، وهم بأموالنا يتنعمون وفي السخاء يسرفون! فمعركتنا ليست معكم، ومعركتكم ليست معنا أيضاً، فإما أن ننهض بالوطن معاً أو نغرق وإياه في بحور مظلمة.
وبالمقابل، إلى أصحاب القرار نتوجه برسالة واضحة وليس بمطالب أو أمنيات:
أنتم المسؤولون، فلتجدوا حلولاً من دون حجج أو تبريرات، وموجب التعويض يقع على عاتقكم وحدكم فلا تلبسوه لشعب بأكمله، ولا تحملوا الفشل للأكثرية الساحقة من القضاة الشرفاء ولا تراهنوا على موجب التحفظ والتزام الصمت بعد الآن، إنها فرصتكم الأخيرة للإصلاح وإنقاذ الوطن من الهلاك، فماذا أنتم فاعلون؟
وبتعبير بسيط نقول: نحن القضاة لم يعد بمقدورنا الوصول إلى المحاكم المظلمة الموحشة كي نقوم بعملنا، فالحكم بالعدل يتطلب صفاءً ذهنيّاً ومعنويّاً أمعنتم في إفقادنا إياه. ليسَ لنا أن نَستجدي وليس لغيرِنا أن يُجبرنا على مَا لا طاقة لنا به. تُجرِّدونَ القاضي من كل شيء وتطلبون منه كل شيء وتحملونه مسؤولية كل شيء. ليس واجبنا أن نرشدكم الى كيفية إنقاذ السلطة القضائية، بل واجبكم انتم. عسى أن تجدوا السبيل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، وإلا فعلى الوطن السلام".