فرانسواز ساغان روح العصر
فرانسواز ساغان روح العصر
كه يلان محمد
Saturday, 02-Jul-2022 06:15

يُمثل المبدعُ روح عصره، ليس من خلال نصوصه ومآثره الفنية فحسب، بل إنَّ سيرته التي قد تكون مصدراً في تشكيلة المواد الإبداعية، تعبّرُ عن تحدّياتٍ قد اختبرها، فبالتالي زادته الوقائع وعياً بطينة البيئة التي عاش على كنفها.

من الطبيعي أن يبادرَ بعض الأدباء برواية رحلة حياتهم واستعادة المحطات المفصلية من المشاهدة والتجربة، وبذلك تتمُّ تغطيةُ لعبة الحياة بزخمها اللامحدود واتجاهاتها اللامتوقعة. إذاً، فما يضمّهُ العمل الأدبي ليس إلّا جانباً من المُعادلة في حياة صاحبه، وما خفي قد يكون مثيراً للجدل أكثر ويفوق تشويقه على ما يتصدّر الواجهة. لذلك، إلى جانب الملعب الإبداعي، هناك أرضية أخرى للحياة. إذ ثمة من أدرك قيمة هذه الفرصة، ولم يتوانَ عن الارتماء نحو الواقع الحافل بالاحتمالات اللامتناهية. إذاً، فلا غرابة من الاهتمام الذي تحظى به سيرة بعض شخصيات أدبية، بحيثُ قد غدت طاقة ملهمة لكتابة نصوص روائية أو لإنتاج روائع سينمائية. وقد لا تكفي مروية واحدة لمتابعة حياة المرء بأكملها، لذا بادر ديني ويستهوف، وهو إبن فرانسواز ساغان من زوجها الثاني، بسردِ سيرة أمه في كتابه المعنون بـ»ساغان وابنها». ومن المعلوم أنَّ ساغان قد نشرت سيرتها «مع أطيب ذكرياتي»، ساردةً فيها مراحل من حياتها الإبداعية والشخصية. ولم تفوتها الإشارةُ إلى روافد تكوينها المعرفي، حيثُ ذكرتْ ثلاثة عناوين كانت أعمقَ تأثيراً على ذائقتها الثقافية وتشكيلتها الفكرية: قوت الأرض، إشراقات، والإنسان المتمرّد. هذا فضلاً عن إشادتها الكبيرة بشخصية سارتر وكتابه «كلمات». فبرأيها من أكثر كتب روعةً في الأدب الفرنسي. هنا يكونُ السؤالُ قائماً بشأنِّ ما يمكنُ أنْ تضيفهُ السيرةُ الغيرية على ما وردَ في السيرة الذاتية؟ طبعاً يتوقع المتلقّي بأنَّ السيرة الجديدة تكشف ما سكتت عنه ساغان في سيرتها الذاتية، كما أنَّ صيغة العنوان تعِدُ بأنَّ النص يتوقفُ حول ما تعنيه الأمومة في مسيرة صاحبة «إبتسامة ما» الإنسانية. واللافتُ هو ما يقولهُ الابنُ في المقدمة، حيثُ يعلنُ صراحةً بأنَّه ليس كاتباً ولا يدّعي الامتلاك لمفاتيح حقيقة مُطلقةٍ، وبالتالي لا يعتبرُ نفسه أكثر من شاهدٍ متيقظٍ أحياناً ومتسلٍ أحياناً أخرى للوقائع، قد دونها في مؤلَفِه. ويتابعُ مشيراً إلى أنَّ كتابهُ هو ضربة مكنسةٍ على المعلومات المبركة التي شاعت عن والدتها.


النجومية
يبدو أنَّ الهدف من نشرِ سيرة أُخرى على لسان الإبن، هو تشذيب الصورة من الافتراءات المغرضة التي تزدادُ تضخّماً مع صعود الأسماء الجديدة. ومن المعلوم أنَّ الرواية الأولى لساغان كانت بمثابة أوراق اعتمادها لنادي المشاهير. وكما يقولُ ديني، إنَّ والدته قد اشترت بعائدات باكورتها الروائية سيارة جاغوار. ما يعني تحقيق أرقام قياسية في مبيعات الكتاب. وبالمُقابل، شهدَ الوسط الأدبي استنفاراً ضدّ الظاهرة الساغانية، إذ تكفّلت إحدى صديقات الكاتبة بنشر شائعة، ونسبت «مرحبا أيها الحزن» إلى نفسها، مدّعية أنّ ساغان ليست الكاتبة الحقيقية للرواية. وعندما سُئلتْ فرانسواز ساغان عن صحة كلام صديقتها قالت ساخرةً: «لا يُضايقني أن تقولَ إنّها تكتب كتبي، طالما لا تقول إنني أنا من يكتبُ كُتبَها». ولم تنتهِ الحملةُ عند هذا الحدّ، بل طالت الشكوك أعمالها الأخرى، واُتهمت بأنَّ روايتها «الكلب المُتربص» مأخوذة من إحدى قصص جان هوغرون القصيرة بعنوان «المرأة العجوز». وبدوره، فتح جان-بير فاي جبهةً على الكاتبة المُغامرة، واصفاً ما نشرته ساغان بالبديل المبتذل لرواية العبث، وما كان ردّها إلاّ صاعاً بصاعين «لم تنتظرْ عبثية الوجود لا سارتر ولا كامو، كما أنّها لم تنتظرني لتوضع في روايةٍ، وكذلك الأغبياء لم ينتظروا قرننا هذا لتقديم تعليقات بهذا الأُسلوب»، علّق الفيلسوف «غابرييل مارسيل» على إصدار رواية ساغان. إذ وصفها بالخطر على سمعة الفتاة الفرنسية. وعن تغيير النسبة وما أثاره من اللغط، ينقلُ ديني عن والدته، بأنَّ مردّ ذلك كان رينيه جوليار الذي أبدى انزعاجه من وجود اسم كواريز على الغلاف، مطالباً منها اختيار بديل له، وصادفَ أن تزامنَ الاتصال مع انكباب ساغان على قراءة «البحث عن الزمن المفقود»، وهنا رشحت للناشر «ساغان» وهو إسم لإحدى شخصيات رواية «مارسيل بروست». يُذكر أنَّ بروست لا يغيبُ أيضاً من لائحة قراءات الإبن، يقولُ: -وقعت معه في حيص بيص، وشعرتُ كأنني في دوامة خيل، إذ الكلمات والجمل تقذفك من حافةٍ إلى حافةٍ من تفكيرك، مستعيداً في هذا الإطار رأي والدته عن التوغل في غابة بروست، «يمكننا أن نقرأ بروست عشر مرات دون أن نكون قد قرأنا بروست على الإطلاق»، وهذا ما يوحي بأنّ الحساسية النقدية كانت حاضرةً لدى فرانسواز ساغان.


الجنون
ولم تتوقفْ مغامراتها عند زاوية الأدب والإبداع. كانت تحبُ لعبة الروليت وطاولة سكة الحديد، إذ رأت فيهما أقصى درجات الإثارة، واشترت من المبالغ التي ربحتها في القمار قصراً في النورماندي. وذاقت في كازينو كليرمونت مرارة الخسارة وطعم الربح في آن واحد. وقد سردتْ ساغان تفاصيل هذا الموقف في القسم المعنون بـ»القمار» بِمذكراتها. ويروي ديني حيثيات ما عاشته مؤلفةُ «هل تُحبين برامس» في الكازينو اللندني وخسارتها لمبلغٍ فادح، بحيثُ أرادت العودة إلى باريس وتبيع سيارتها ومنزلها، غير أنّها لم تنسحبْ من اللعبة ولملمت شتاتها الذهني وتمكنت في نهاية المطاف من الوقوف على رجلها والخروج من قاعة اللعبة بعد أربع ساعات من الصراع المستميت مع الحظ، إلى أن روّضته. هكذا تكتسبُ ساغان درايةً بهذه اللعبة. فبرأيها أنَّ القمار يتطلبُ قوة الإرادة والبسالة ورباطة الجأش. ولا تنكرُ الجنون الذي يحلُّ على طاولة المُقامرين، كما أدركت المساحةَ التي يشغلها المالُ في حياةِ المرء «ثقل المال يمنعُ الإنسان من التسامي. إنَّ له تأثيراً على أولئك الذين يمتلكون المال بقدر ما يؤثر على أولئك الذين لا يمتلكونه». إذاً، ما تناولهُ الإبنُ في كتابه يؤكّدُ بأنَّ الجنوح إلى المُغامرات كانَ محرّكاً لحياة ساغان. قد جذَّبها كل ما ليس مُطمئِناً. وهذا ما يفسّرُ إطلاقها العنان لأقصى السرعة في قيادة السيارةِ. الأمر الذي كاد أن يودي بحياتها في عام 1957، وتمزقت إلى ألف قطعة على حدّ قولها، وتمّ انتشالها من حطام السيارة وهي على مرمى أنفاس من الموت. وبالطبع، إنَّ هذه الحادثة كانت لها تبعات على حياةِ فرانسواز ساغان، إذ لم تعدْ توأماً للحظ واللامبالاة والموهبة والمجد. والغريب أنَّ ساغان وصل بها النزقُ لدرجة أرادت أن تكون حرةً في تدمير نفسها. ولم تكفْ عن تعاطي المخدرات والمواد الكحولية، على الرغم من تعرّضها لملاحقات قانونية. واستفحلت معاناتها مع الألم بعد حادثة السير، ما يعني أنَّ المهرب الوحيد بالنسبة إليها كان الأدوية المُهدّئة، ومن ثمَّ تخضع لعملية جراحية، حتى تصرف النظر عن الكحول نهائياً. وزادت عليها وطأةُ الأزمات بعد رحيل صديقتها المقرّبة باولا. وتتواردُ في سياق هذه المروية الإشاراتُ إلى اهتمام ساغان بتكوين ابنها المعرفي، إذ كانت ترشحُ له الروايات، كما حاولت إقناعه بضرورة مزاولة الرياضة. ومن المواصفات البارزة التي رأها ديني في شخصية والدته، الفكاهة التي اعتقدت بأنَّ الافتقار إليها عاهة فكرية مرهقة. كذلك كانت تتمتعُ بالذكاء وسرعة البديهة في الردّ، والعناية بالمظهر كانت جزءاً من برنامجها اليومي، كما أنَّ السخاء هو المشترك بينها وبين معلّمها سارتر. والطريف أنَّ ما يذكره الإبن عن موقف يجمع بين ساغان والمخرج بازوليني، فهي تعلنُ صراحة أنّها لا تفهم أفلامه المرهقة واللاأخلاقية. فإذا بشخص يقدمُ في المقهى قائلاً: «بييرباولو بازوليني تشرفت بك»، وكانت ساغان شغوفة بمتابعة السينما لدرجة التقمص مع أبطال الأفلام والتفاعل مع الحدث.


عملة الحب
لا يستغرقُ الراوي في الحديث عن علاقات ساغان العاطفية، ويكتفي بالإشارة إلى زواجها مرتين. كما يلتفت إلى صداقتها الودودة مع بعض الشخصيات السياسية، وما كلّفتها القرابة والتضامن مع رموز اليسار الفرنسي من المحن، حيث تألبت ضدّها الحكومة اليمينية. وتراكمت عليها الضرائب. إذ كانت ساغان قد خطفت الأضواء في شبابها بحضورها اللافت وتوقها للحياة وطيها للمسافة الفاصلة بين البدايات والمجد. فهي قد عانت الأمرّين في أيامها الأخيرة. كانت ترزحُ تحت عبء الوحدة والمرض، ولم تحظَ بأي اهتمام رسمي. حتى الإبن لم يتجرأ بأن يتقبّل تركة والدته، كونها ملغومةً بالملفات الضريبية. أياً يكن الأمر، فأنَّ العمر والحب والمال، كل ذلك برأي ساغان، لا بدَّ أن يتمّ صرفه. فضلاً عن كل ما سبق ذكره، انَّ الابن يشيرُ الى مواقف والدته بشأنِ ما مرَّ به العالم آنذاك من الرعب النووي والحروب. ويشارُ إلى أنَّ ديني ويستهوف يعترف بأنَّ ساغان الأسطورة ليست محمية من النقائص، لكن لا تزال حاضرةً بجرأتها وتشوقها للسعادة، ومبدأها بأنَّ المأساة لا تعلّمك شيئاً. وقناعتها بأنَّ الأولوية لا بدَّ أن تكون للحياة المباشرة، أما الاحتمالات والأوهام والحسابات فهي فقاقيع تتبدّد. يُذكر أنَّ والدةَ ديني قد طُردت من مدرسة لويز دي بيتينييه، وكانت تمضي يومها من الثامنة صباحاً إلى السادسة مساءً في التنزه بباريس، وانهمكت على قراءة أعمال كامو وسارتر وكوكتو، ومن خلال حياتها هذه الحافلة بالمُغامرات، مثلت ساغان روحَ ذاك العصر الاستثنائي. مع أنَّ فرانسواز ساغان هي بؤرة مروية الإبن، لكن الأخير يبدو مخلصاً لوالده بوب ويستهوف أيضاً، ويسردُ جانباً من نشأتهِ وتجربته في الجيش الأميركي، والظروف التي التقى فيها بساغان.

theme::common.loader_icon