سارتر والفلسفة الحيوية
سارتر والفلسفة الحيوية
كه يلان محمد
Wednesday, 15-Jun-2022 05:04

قد لا يكون الفكرُ عاملاً حاسماً في التحولات التي تشهدها المسيرة البشرية، لأنَّ هذه العملية تتطلبُ وجود مقومات متعددةٍ إلى أنْ تُتَوّجَ بنقلة نوعية في نسق الحياة. صحيح أنَّ مظاهر الحضارة تتمثلُ في سلسلة من التقدم في الوسائل المادية، لكن كما يقولُ المفكرُ العراقي «حسام الآلوسي» هي أيضاً محطات قد مرّت بها الأنظمة الفكرية، بدءاً من المرحلة البدائية إلى أنْ تم الخروج من قيد القصور العقلي وإكراهات التفسير الخرافي.

ا شكَّ في أنَّ دور الفلاسفة كان ريادياً في كسر الجمود العقلي وتثوير المفاهيم، وإنشاء واقعٍ فكري ينضحُ بالحيوية. لذلك يرى ديكارت أنَّ أجلَّ نعمةٍ ينعمُ بها الله على بلدٍ من البلدان هي أن يمنحه الفلاسفة. فعلاً انَّ فرادةَ أي عصر تكمنُ في عطائه الفكري والجدل الذي يدورُ بين أصحاب المشاريع الفلسفية. لذا، فإنّ الزمن الاستثنائي هو ما يكونُ مطبوعاً بالحراك الفلسفي كما كانت عليه الحالُ في فرنسا إبّانَ ثلاثينات القرن المنصرم إذ تزاحمت المذاهب الفكرية في الفضاء الثقافي وفرضَ الواقع الجديد إقامة التواصل مع الكشوفات المعرفية بمنطقٍ مَرن وكانَ المزاجُ يوافقُ منحى جديداً للتفلسف. وما أن رشحَ ريمون آرون لصديقه «سارتر» شكلاً آخر للتعاطي الفلسفي موضِحاً له ببساطة «إذا كنت فينو مينولوجيا تستطيعُ الحديث عن كوكتيل المشمش هذا وتُنشئ منه الفلسفة»، حتى ينصرفَ صاحبُ «الغثيان» نحوَ موائد الظاهراتية. ومن ثمَّ يقوده البحثُ عن مبادىء هذا التيار الفلسفي إلى برلين. وهناك اعتكفَ على القراءة إلى أنْ تشبّعَ بمفردات الظاهراتية وحرّرَ بحثاً مُفصلاً حول فلسفة إدموند هوسرل.
تميّزَ سارتر بالنبوغ والنهم المعرفي، وعندما سألتهُ أمه وهو كان طفلاً ماذا يعملُ عندما يكبرُ وهو يقرأ بسن صغيرة مؤلفات الأدباء الكبار، أجاب قائلاً: سوف أعيشها بالطبع. لم ينفصل الحس المعرفي لدى سارتر عن حيثيّات الواقع كما لا توجدُ ثغرة بين شخصيته وأفكاره. «حياتي وفلسفتي شيء واحد». وكان يختلف عن زملائه بعفويته إذ يدخن الغليون ويلبس سترة من دون ربطة العنق ويناقش طلبته بشأن فلسفة كانط وقراءة الروايات البوليسية ولعبة الطاولة. ما يعني أنَّ مؤلف «الدوامة» قد انخرطَ في غمار الحياة بكل ما فيها من الأمل واليأس والإحباط والإغراء، ولم يركن إلى رتابة التنظير، وأدرك بأنَّ المفاهيم المُجردة لا تعوّض عن متعة المغامرة. يرى آلان دوبوتون أنَّ جوهر فلسفة سارتر يقومُ على إدراك الوجود كما هو مجرّداً من أية أفكار مسبقة وافتراضات مُطمئنة. دأبَ جان بول سارتر على صياغة نظريات جديدة وما انفكَ يُفاجئ أصدقاءه بحيويته في المبارزة الفكرية. وكان مغرماً بمُنازلة من يخاصمه والوقوف بجانب مَن طالَه الإقصاء وهو دعمَ الطلبة الراديكاليين في ستينات القرن العشرين، لكن أخبر ويليام بوروز بأنَّه سينقلبُ عليهم إذا انتصروا.

ضد النخبوية
هذه الوصفة التي تجمعُ بين الفكر والحياة هي ما راهنَ عليها سارتر ولم يستسغْ دور المشاهد من البرج العاجي. وبذلك مثلَّ بمواقفه نموذجاً للمثقف الذي اندمج في تيار الواقع ولم يقبع وراء أسوار الأكاديميات، وفتحَ صفحات مجلته «الأزمنة الحديثة» بوجه أشكال جديدة من الكتابات الفُكاهية والسيَر الذاتية للمهمشين والأسماء الواعدة، وبهذا حطّم ما سُمّي بالأدب الجاد، وأصدر كتاباً عن بودلير، فضلاً عن دراسته الكبيرة عن فلوبير. كما يستحيل تجاهل مواقفه حيال التطورات والتحولات السياسية التي حفل بها القرن الماضي بدءاً باحتلال ألمانيا لفرنسا، ومن ثُم احتضار المرحلة الاستعمارية، وما تصاعَد في ظل أجواء الحرب الباردة من الصراعات المُحتدمة على مُختلف الصعد، مروراً بثورة الطلاب في 1968 وانقلاب الجيل الجديد دعاة «مَنع المنع» على كل المعتقدات والالتزامات الأيديولوجية وصولاً إلى استنكاره للمشروع الاستعماري، إذ اعتبره عاراً للحضارة الغربية واستِهانة بالقوانين.

عقل جبّار
أعلنَ «سارتر»، وهو في ريعان شبابه، أنَّه يستطيعُ أن يُجادلَ «نيتشه» ويقنعه كيف يمكنُ للإنسان أن يكونَ حراً باختياره. ومن المعلوم أنَّ الحرية هي مبدأ أساسي للفلسفة الوجودية. «لا يوجد مسار موصوف يهدي الإنسان إلى خلاصه، بل يجبُ عليه اختراع مساره دائماً». وهذا لا يتحققُ بدون الحرية والجرأة على تحمّل المسؤولية. كما أنَّ الاعتراض على الأعراف السائدة مَلمح بارز في مواقف سارتر ويكمنُ في ذلك سر الحيوية في اشتغاله الفلسفي، إذ رفض نظام التدريس في الجامعات لأنَّ ما يُكَرّس في هذا السياق المعرفي يخلفُ الخمول العقلي ويستنفدُ الطاقات الحيوية، وبالتالي يضع الفكر أمام أفق مسدود.

الند الفكري
لا تستمدُ سيرة سارتر الحيوية من المساعي الفلسفية والاحتكاك بالواقع المُستفيض بالمتناقضات والتفوق في الاختيارات الإبداعية فحسب، بل إنَّ العلاقات التي أقامها مؤلف «الذباب» على المستوى العاطفي قد زادت حياته توهّجاً. وما عاشَه مع ندّه الفكري سيمون دوبوفوار قد ينزلُ ضمن ما يمكن تسميته بالمجد العاطفي. بدأَ التواصل بين الإثنين في مناخ مشحون بالتوتر والتطلّع المعرفي. قبل معرفة سارتر قد ذاقت صاحبة «موت عذب» طعم الحب في تجربة عاطفية لم يُكتب لها الاستمرار كذلك الأمر بالنسبة لسارتر وما مرَّ به الأخير لم يخلُ من معاناة قد ألقت بظلالها على حياته. عُرف سارتر وسط الطلبة بأنَّه سكيرٌ يرتادُ الحانات، وعندما تزور دوبوفوار برفقة ماه و مكان إقامة سارتر في المدينة الجامعية في جنوب باريس تنزعج الزائرة الجديدة بما يسود غرفة صديقين، هما نيزان وسارتر، من فوضى وقذارة، ولم يُلزمْ سارتر ولا صديقه بتغيير الأسلوب في الحديث، ومناقشة المواضيع المختلفة بطريقة أقل حدة وأخفّ صرامة، مراعاة لِمن يكون حديث العهد بهم، ولا يبدأُ التقارب بين سارتر ودوبوفوار إلّا في المدة التي سبقت الامتحانات المضنية، لنيل شهادة الأستاذية حيث نادراً ما افترقَ الاثنان قبل الأسبوعين من موعد الامتحانات الشفهية، وعندما تكتشفُ سيمون دوبوفوار طاقات سارتر الفكرية تصفه بالعقل الجبّار. يُذكر أنّ الأساتذة تجادلوا حول منح الجائزة الأولى لسارتر أو لدوبوفوار، فالأخيرة قد تحولت إلى ظاهرة ثقافية بوصفها أصغر طالبة أنهَت دراسة المنهج الفلسفي في غضون ثلاث سنوات، بينما سارتر احتاج إلى سبع سنوات لينجح، لن تكون علاقة الاثنين محدودة فقط بالطموحات والاشتغالات المعرفية، بل تنفتح على الجانب الحميمي والجسدي، وهذه التجربة ليست الأولى بالنسبة لسارتر ولا دوبوفوار، غير أنّ ما يفرّقها عن التجارب السابقة لدى كل واحد منهما، هو التناغم القائم على المستوى الفكري، الذي وَفّر دوافع الاستمرارية لثنائية مميزة. كان سارتر متمرّداً على التقاليد البورجوازية، كما شاءت الظروف أن تنقلب حياة أسرة دوبوفوار نتيجة لِما مُني بها والدها من خسارات مالية، بعد سقوط الدولة القيصرية في روسيا. وبالتالي، فإنّ احتمال زواج الابنتين دوبوفوار واختها على الطريقة البورجوازية قد تلاشى. وعندما يحلُّ أوان اللقاء بينهما في قرية ليموزين، ويمشي الاثنان مع بعض، تتوصّل دوبوفوار إلى قناعة بأنّ علاقتهما لن تعرف الضجر، ولو استمر الحديث بينهما إلى يوم القيامة سيبدو الوقت قصيراً جداً. والأغرب ما بين سارتر ودوبوفوار هو اتفاقهما على عدم الزواج، ومعالجة مسألة الغيرة بينهما من خلال الشفافية والانفتاح على تجارب عاطفية أخرى.

اللذة
كان سارتر يمقت منظومة الزواج والملكية، وتنقّلَ بين الفنادق، ولم تعجبه نصائح الأطباء بضرورة الإقلاع عن التدخين والإفراط في الشراب، وما يصعب استيعابه في تجربة سارتر العاطفية هو تعدد علاقاته. أكثر من ذلك فهو تحمّل نفقة معظم الفتيات اللائي اعتبرنَ من محظياته، ولم يحالفه الحظ في كل محاولاته على هذا الصعيد، وكلما تعثّر في ترويض إحدى الفتيات، تفاقَم لديه الشعور بالاكتئاب والتوتر. هذا ما وقعَ له عندما أبَتْ أوليغا، وهي فتاة من أب روسي وأم فرنسية، أن تكون جزءاً من قائمة نساء سارتر، وما وجد تعويضاً لهذا الإخفاق إلا في واندا أخت أوليغا، وعندما وصلَ الفيلسوف الوجودي إلى أميركا نشرت «التايم» صورة له مع تعليق عليها «الفيلسوف سارتر. الضعيف أمام النساء». كما قدمت سالي سوينغ من جانبها صورة عن تعامل سارتر مع النساء، مُعتقدةً أنَّ مؤلف «االوجود والعدم» يتصرّف مع النساء كخزانة بأدراج. أنتِ في الدرج الأعلى، وهي في الدرج الأسفل وهكذا. وقد يكون الأمر مستغرباً إذا أضفَت إلى ما سَلف ذكره أنّ سارتر قد ألّف معظم أعماله المسرحية من أجل إيجاد فرصة التمثيل لبعض عشيقاته. وحين ينكشفُ الغطاء عن هذا الجانب المثير يتساءلُ المرءُ: هل أراد سارتر أن يكونَ امتداداً للأبيقورية؟.

theme::common.loader_icon