خفة الاستئناف في رواية «ثلاث مرات في الفجر»
خفة الاستئناف في رواية «ثلاث مرات في الفجر»
كه يلان محمد
Saturday, 04-Jun-2022 06:16

ينظّمُ صاحب «حرير» برنامجه وفقاً لمبدأ متكافئ بين العناصر التي تنهضُ عليها الرواية. الأمر الذي يزيدُ من تناسق التركيبة الابداعية، ويرسي التماسك بين مفاصلها. والمتابعُ لمحتويات أعمال أليساندرو يقعُ على الرغبة في تجديد أدوات علبته وتشكيلته، في بناء معماره الروائي. هذا إضافة إلى أنَّ ما يشتغلُ عليه باريكو هو الرشاقة في حركة السرد والفنيات العالية في التصميم. والحالُ هذه، فإنَّ النصَ لا يكون ثقيلاً بالزخارف اللفظية والغموض المُفتعل. ويُعقَدُ الرهان على ثيماتٍ قد تبدو بسيطة بالنسبة للمُتلقّي، غير أنَّ السياق الإبداعي يكسبهُ بعداً جديداً، وهذا ما يختبرهُ الكاتبُ في رواية «مستر غوين»، وهي تقومُ حبكتها على متابعة شخصية أدبية ذاع صيتها في الوسط الجماهيري، لكن تعلنُ الاعتزال عن الكتابة، وبالطبع يخلف هذا القرار شعور بالخواء والفراغ لدى جاسبر غوين، وما منه إلّا أن يبدأَ بلعبة ذهنية، متوخياً من ذلك التخفيف من الخواء الذي داهم أيامه بعد الانسحاب من عالمه الطافح بالاغراءات عليه.

 

فإنَّ هذه الوضعية تضاعف من الملمح الغرائبي في جسد النص، وتثير الأسئلة بشأن مصير مستر غوين والدوافع التي حدت به نحو التواري. يذكرُ أنَّ الاندساس إلى فضاء «ثلاث مرات في الفجر» قد فرض العودة الخاطفة إلى مستندات رواية «مستر غوين»، لأنَّ المؤلف يشيرُ في مقدمة عمله اللاحق، أنّ ما يضمهُ بين طيّاته ليس إلّا تعبيراً عن الرغبة لإكمال رواية «مستر غوين»، انطلاقاً من العنوان الذي يردُ ذكرهُ في طياتها «ثلاث مرات في الفجر»، وهو عملُ لكاتب متخيّل أكاش ناريان من صنيع باريكو، تعثرُ رييبكا صدفة على روايته الوحيدة، وتعرفُ من خلال ما يقدّمُ على ظهر الكاتب، أنَّ ناريان كان موسيقياً عاش في برمنغهام حتى موته في سن الثانية والتسعين.

 

التناص

تدورُ رواية «مستر غوين» حول الهواجس التي يعانيها المبدعُ وإمكانية تحوله إلى كائن لامرئي، عندما يتسترُ خلف أسماء عدة، ومن ثمَّ الانصراف إلى أشكال وتجارب جديدة في محترفه الإبداعي، إلى أنْ يتنفسَ نصّه بعيداً من المحدّدات المختنقة. وذلك يعني أنَّ «مستر غوين» رواية عن الاشتغال الروائي، وبالتالي من المحتمل أن يجنحَ المؤلفُ نحو التجريب في سبك المبنى الحكائي المكمّل لإرساليات المتن، وعلى ذات المنوال يتخذُ مسلكاً تجريبياً في رواية «ثلاث مرات في الفجر»، عبر إقامة علاقة تناصية بينها وبين حيثيات النص الذي سبقها «مستر غوين».

 

أكثر من ذلك، فإنَّ تحديد المناطق التي تتقاطعُ فيها شخصيات الروايتين لا يكلّفُ المتلقي كثيراً من العناء. يترشحُ ملمحُ متحدٍ للحياة النمطية من الحوار المُتبادل بين المرأة المغرمة بزيارة الفنادق، والرجل الذي يعملُ تاجراً للموازين، حيث تقترحُ الأولى على الأخير بأن يتركَ شغله ويبدأُ من جديد. موضحةً المفاعيل الايجابية للتفكير بهذا المنطق. إذ يسترسلُ الراوي من الخارج في سرد قرار المرأة بالتخلّي عن طفلها واختيار العمل في مدينة أخرى والظهور بزي مختلف، إلى أنْ تستخلصُ من كل ذلك نتيجة مفادها بأنَّ ما يمكنُ تغيّرهُ هو طاولة اللعب وليس أوراق اللعبة.

 

يشار إلى أنَّ النص يستمدُ انسيابيته من تناوب الحوار والسرد على المحتويات المروية. يتمثلُ البعد التناصي على المستوى الفكري بين شخصيتين، الأولى ريبيكا في «مستر غوين»، وهي أعادت بناء حياتها وعملت في مجالٍ لا علاقة له بالكتب، والأخرى هي المرأة التي تحرّك السرد بغموضها وغرابة تصرفاتها في «ثلاث مرات في الفجر». واللافتُ أنَّ الرواية متسلسلةُ على نسقٍ متطابقٍ، مع مفردة العنوان، فيكونُ الفضاء منفتحاً أمام ثلاثة مشاهد مؤطرة بخلفية مكانية مُتشابهة.

 

إذ يفتتحُ الراوي المشهد الأول بوصف فندق يحفظُ بعض وعود الفخامة والذوق، لافتاً إلى بابه الدوار من الخشب، قبل أن ينتقل إلى مراقبة المرأة التي تدخلُ إلى الفندق. يتخففُ السردُ من ورم الاسترجاع في رواية «ثلاث مرات في الفجر» ولا ينجلي الغموض عن شخصياتها، كما أنَّ الحركة الأخيرة في النص تفتحُ مساحة للتأويل، هذا ناهيك عن الرغبة الناشبة من القراءة للقيام بلعبة متخيّلة وإعادة ترتيب الأوراق ذهنياً. هذه الحالة تنسحبُ على ما تُختمُ به وحدات رواية «ثلاث مرات في الفجر»، وما يكونُ نواة هذا العمل، هو بنية المُطاردة والغموض وشح المعلومات عن هوية الشخصيات الفاعلة في المساحة السردية.

 

نفس اللاعب

يتخيّلُ للقارئ وهو يمضي قدماً في تتبعِ مضامين الرواية، أنَّ أليساندرو باريكو يتصرّفُ مع المعطيات الابداعية بروحية اللاعب المحترف، وهو يديرُ دفة اللعبة أنى يشاء. ويطوّعُ الكرة بالاتجاه الذي يريدُه. الأكثر من ذلك، يشركُ باريكو المتلقّي في اشتقاق الفرضيات بشأن المناحي التي ينتهي بها تيار السرد. لا وجود للفوضى على طاولة أليساندرو باريكو الإبداعية، لذلك إضافة إلى عنصر المتعة المبثوثة في تجاويف أعماله، تفيدُ وصفاته في الكتابة المهتمين بدقائق صنعة الرواية ومرونة التوظيف للتقنيات السردية. كما أنَّ الجديد في «ثلاث مرات في الفجر» هو الخفة في استئناف الحركة، ولا يخلُ الفصلُ بين مشاهدها الثلاثة وقراءة كل مشهدٍ على حدة، ويمكنُ النظر إلى المواد بوصفها عناصر مكمّلة لبعضها البعض. كأنَّ آليساندرو باريكو يكتبُ مقتدياً بمبدأ «نيتشوي» كل ما يتسمُ بالخفة جميل.

 

يلتقي أليساندرو باريكو في أسلوب الكتابة واختياره للمكون المكاني الحاضن للشخصيات والحدث، مع الكاتب النمساوي «ستيفان زفايغ». فالمشترك بين الإثنين هو بناء الجملة السردية على اللغة المقتصدة وحسنُ إدارة حركة الشخصيات وتأثيث مسرح العمل، بما يكونُ مناسباً للتواصل المقنع بينها. زيادة على ما سبق، فإنَّ التنوّع في الصياغة هو ما يصعّدُ من منسوب التشويق في أعمال أليساندرو باريكو. وهو يستثمرُ في المسافات الفاصلة بين جزئيات عمله الروائي، ليستأنف منها نحو المنطقة اللامتوقعة بالنسبة للمتلقي.

theme::common.loader_icon