«الحاج مراد» ختام أعمال تولستوي المخيّبة للإبداع
«الحاج مراد» ختام أعمال تولستوي المخيّبة للإبداع
نسرين بلوط
Wednesday, 18-May-2022 06:39

يختلس تولستوي في روايته «الحاج مراد» من عمق الملاحم التاريخيّة مشاهد ميتافيزيقيّة وأيديولوجية ممتزجة بالواقع المرير، ليعود بتميمة الصبر التي يفتتح ويختتم بها فصولها في اناة ورويّة، ويدسّ حجاب الدسائس والمكائد التي كانت تحاك في الحروب الأكثر دمويّة، مبخّراً مفاصل الحكاية بتعويذة تشبه تميمة الأنبياء الذين عانوا وتكبّدوا ما تناحر عليه قومهم.

تولستوي يُبرز خصال الشعب الشيشاني من خلال طبيعة الحج مراد وعجرفته التي تخالف طيبة روحه وبساطتها، بسبب الرجولة الشديدة التي يزدان بها جسده وبنيته، ويعكس مرآة الزمن الغائب والمكان الذي حدّده في داغستان والقوقاز، حين قاد الحرب الإمام شامل في ظلّ الاستعمار الروسي الذي بسط سيطرته وبطشه حينها.


وقد تسربل الحاج مراد في دوّامة من الخلافات والاختلافات مع حمزة بيك وهو الإمام الثاني للقوقاز، ويذكر تولستوي دون تأكيد الاتهام من مصدر موثّق، بأنّ الحاج قام بقتل حمزة بسبب إقدام الأخير على قتل أخيه وزوجته، ثمّ وقع في صراع مقيت مع الإمام الذي خلفه شامل تسبّب في اختطافه لعائلته، فيفرّ الحاج مراد إلى الروس ويلجأ إلى كنفهم، طالباً منهم حمايته وتحرير عائلته، ولكنّ القائد الروسيّ يحجم عن مدّ يد العون إليه حتّى يتأكّد من نواياه، ممّا يدفع الحاج مراد إلى الهرب مع أعوانه، لتتمّ تصفيته من قِبل الجنود الروسيّين الذين ظنّوه خائناً وعميلاً خفيّاً، ويموت شاهراً كرامته بوجه كلّ من أراد إحباطه أو النيل منه.


تضيء الرواية بشقّيها الخيالي والواقعي على جوانب الحرب التي دارت بين أهل القوقاز وداغستان ضدّ الروس، وأساليب العنف التي اتّبعتها روسيا في إبادة القرى. ولكنّ الكاتب لم يستطع أن يجعل القصّة تدبّ على خفّين من البراعة التي تمرّس فيها في معظم رواياته السابقة، فهو يفصّل ويعلّل شخصيّة الحاج مراد بشكل سطحيّ لا يتناسب مع الأسطورة البطوليّة التي نسجها التاريخ حوله. وتمضي الأحداث مفتقرة إلى عنصر الدهشة والجذب، وتفتقد إلى عناصر التخاطب اللازمة والضروريّة التي تدور على لسان اللاجئ والسياسي، باستثناء الوصف الذي جاء عن لسان الحاج نفسه حيث قال: «حارقةٌ أنتِ، أيتها الرصاصة، وتحملين الموت، ولكن ألم تكوني أنتِ أَمَتي الوفيّة؟ وأنتِ أيتها الأرض السوداء، ستُغطّينني، ولكن أليس أنا من كان يدوسكِ بحصانه. باردٌ أنتَ أيها الموت، لكنني سيّدك ستأخذ الأرض جسدي، وروحي ستتقبّلها السماء».


يختطّ الكاتب أوسمة بالية من كتابة روتينيّة يطغى عليها الإملاء والاخفاق في تجيير أفكاره للقارئ، ويسير في الرواية بفلسفة الرواقيين الذين لا تهزّهم نوائب أو تدهمهم عواقب، ويظهر لنا هذا الانطباع من خلال قوله: «خطر له أن يقطف زهرة تلك النبتة ويضعها في وسط الباقة، فاستعصت عليه لأنّ الزهرة كانت متشبّثة بالأرض، وكانت تخزه بالرغم من لف يده بمنديل؛ أصرّ أن ينتزعها من أليافها واحدةً واحدة، وحين تمكن من قطفها لم تعد الزهرة بتلك النضارة والجمال اللَذْين كانت عليهما؛ أسف أنّه أهلك عبثًا؛ الزهرة التي كانت جميلة في مكانها، قال في نفسه متذكّرًا الجهد الكبير الذي بذله في قطف الزهرة: «يا لقدرتها على الحياة وقوتها! كم حياتها غالية عليها، وكم استماتت في الدفاع عنها».


العبارات تبدو موسومة بأشعّة المواربة، فلا أسلوب توضيحيّاً ولا توثيقيّاً يستطيع المتلقّي أن يستند عليه، باستثناء جرعة سخيّة من الوصف العام الذي لا يغوص في معالم الأشياء والأشخاص، فيبدو أسلوبه يتغامز بلغة الإشارات الغامضة والكلمات العاديّة، فصاحب رواية «أنّا كارنينا» التي أحدثت ضجّة وتحوّلاً لافتاً في أسلوب الرواية الغربيّة، لم يسطع أن يوجّه قناديل أفكاره الساحرة في الدرب الصحيح للرواية العسكريّة السياسيّة، فروى القصّة عن لسان أشخاص التقى بهم وحادثهم، ويبدو متوغّلاً في فلسفة ذاتيّة يتناجى بها مع نفسه، حيث كتب: «كان واضحاً أنّ عجلة عربةٍ قد مرّت على النبتة مرارًا، ثم انتصبت ثانيةً ولذلك كانت مائلة، ولكن منتصبة رغم ذلك. كأنّما اقتُلعت قطعةٌ من جسدها، وانتُزعت أحشاؤها، وقُطعت يدها، وفُقئت عينها، لكنها ظلت واقفةً ولم تستسلم للإنسان الذي يُبيد كلَّ إخوته من حوله. قلت في نفسي: يا لها من قدرة! لقد انتصر الإنسان على كل شيء وأباد ملايين النباتات، فيما هذه النبتة لا تزال صامدة ولم تستسلم».


الأحاسيس تبدو متجمّدة في سياق الرواية وكأنّه ينوء بخصلته المخجلة التي تسنّ القتل شعاراً للحروب وفخراً خالصاً لها، واصفاً الموت مثل عجلة تدوس وتمضي دون أيّ واعز أو رادع: «لم يكن أحد منهم يرى أنّ هذا الموت هو اللحظة الأكثر أهميةً في حياة الإنسان - منتهاها وعودتها إلى المصدر الذي انبثقت منه».


تستدرج الرواية حسّ الاستطلاع في البداية، ولا تلبث أن تخذل قارئها بمقاربات غير مجدية في خلوات من الرتابة والسكون الذي لا يجب أن يسود هذا النوع من الروايات المصنّف بالانفعال والحماسة والاحتواء التاريخيّ والزمنيّ.


تولستوي كاتبٌ يحترف الابداع ويستمرئ المعرفة من ضرع الفكر، ولكنّه أخفق في رواية «الحاج مراد» التي كانت آخر رواية يكتبها قبل رحيله، في تجييش العاطفة وتهيئة الجوّ الملائم للقارئ لتقبّلها، فتجلّت مثل الجلمود الصلد متّبعاً لغة الإيماء دون التطرّق مباشرة إلى لبّ الواقعة التاريخيّة والمجزرة التي حدثت بحقّ الحاج مراد، ودون أن ينصفه ظالماً كان أم مظلوماً، فلم يضف إلى تاريخ عبقريّته روحاً إضافيّة تشهد له في أعماله العظيمة.

theme::common.loader_icon