كاتيا الطويل: «لقد وضعتُ وشم كلمة «أنا» بين الإصبعين اللتين أكتب بهما»
كاتيا الطويل: «لقد وضعتُ وشم كلمة «أنا» بين الإصبعين اللتين أكتب بهما»
كه يلان محمد
Saturday, 14-May-2022 06:09

حجزت الروائية الفرنسية فرانسواز ساغان موقعها في صفوف النجومية مع إصدار باكورة أعمالها «صباح الخير أيها الحزن»، إذ أثارت اهتمام الوسط الثقافي وجمهور القرّاء في آن واحد، وكان النصُ مدوياً بحبكته التي تقومُ على رصد المشاعر المتناقضة لدى البطلة «سيسيل» وهي الأنا الأخرى للذات الكاتبة في نَزقها ومناوراتها الماكرة. ومن المعلوم أنَّ ساغان قد سجلت بيان تمرّدها على أوراقها المدرسية، مُعلنةً «أنا لا أنتمي إلى هذا العالم المتزمّت بالمرّة. لا أحبّ أن أكون ابنةَ عائلة غنية». وعليه، غامرتْ بملاحقة مصيرها في مكان آخر، ولم تسمع سوى هدير الرغبة. وما خبرته صاحبةُ «ابتسامة ما» من تجارب متعددة في معتركها الوجودي كان عاملاً أساسياً في نضوج أفكارها بشأن الحياة والإبداع. هنا في إطار هذا الحوار تناقش الروائية اللبنانية كاتيا الطويل رؤية فرانسواز ساغان حول مفاهيم حياتية وابداعية بدءاً من الشهرة مروراً بالحب وصولاً إلى العزلة. يذكرُ أنَّ الطويل قد نشرت روايتين «السماء تهرب كل يوم» و»الجنة أجمل من بعيد»، وهي تستمدُ وعيها المتجدد بحركة الإبداع العالمي من خلال متابعتها المستمرة للمشهد الأدبي ودراستها الأكاديمية.

نص الحوار
• لقد قدّمَت الكتابة لي المتعة المزدوجة في أن أروي للآخرين وأروي لنفسي وهي مثل السير في بلاد مجهولة وساحرة ولكنها أحياناً مصدر إذلال عندما لا يستطيعُ المرءُ كتابة ما يريد. هل تجدينَ ذاتك الكاتبة فيما تقوله ساغان بشأن الإبداع؟
في الكتابة متعة ترقى بالكاتب إلى مصاف الآلهة. الكاتب إله صغير، يجعل نفسه الآمر الناهي في عالم يخلقه وينفث فيه من روحه ومن ذاته ومن ماضيه. كلّ كاتب يحلم بكتابة رائعة تخلّد اسمه، ففي النشر بعد الكتابة شيء من الرغبة بالأبديّة وبالخلود وهي رغبة موجودة في الإنسان منذ سفر التكوين. لا أوافق على أنّ الكتابة قد تكون مصدر إذلال، الكتابة تراكم محاولات وتجارب. لا يصبح الكاتب كاتبًا بين ليلة وضحاها. الإنسان الذي يكتب هو في كلّ يوم مشروع كاتب، هو في كلّ يوم مشروع إبداع. ينظر إلى ما حوله، يراقب التفاصيل، يتأمّل في الحياة والبشر والطِباع ويكتب. كلّ شيء في الحياة موجود ليخدم الكاتب، أمّا الإبداع فهو الحلم الأكبر، الحلم الوحيد. أن يكتب الكاتب رائعة واحدة أمر كافٍ ليعيش آلاف السنين وجسده تحت التراب.


• بعد نجاح روايتها الأولى صرّحت ساغان بأنها متضايقة من النجاح الذي أصبح قراراً سرمدياً. هل يتحول فعلاً النجاح إلى مصدر للملل؟
النجاح لدى الكاتب المرهف مصدر عبء وخوف وجزع، وليس مصدر ملل. هو مسؤوليّة. النجاح هو اسم الكاتب وحياته بعد موته. أنا شخصيّاً إن حالفني الحظّ أتمنّى أن أنجح بعد أن أموت وليس وأنا على قيد الحياة. لكنني أرى أنّه لا يمكن لكاتب أن يملّ. الحياة زاخرة بالوجوه والمواقف والتفاصيل، الكتب نفسها مغامرات لا تنضب. الملل شعور يراود الإنسان المغرور وحده. أنا نفسي أتمنّى لو أعيش العمر عمرين: عمر لأقرأ وعمر لأعيش مع الناس وأفهمهم. الإنسان كائن معقّد والمجتمع فضاء ثريّ، قد نشعر بالنفور من بعض الطباع، لكنّ الكاتب الحقّ لا يحكم ولا يقسو، يمتصّ محيطه ويحتويه. فلوبير وتولستوي عندما كتبا قصص مدام بوفاري وأنّا كارنينا، كتبا قصص عشق وأحلام وهرب من الفراغ ولم يحكما على بطلتيهما كما قد يفعل انسان عاديّ يرى فيهما زوجتين خائنتين. الكاتب لا يملّ ولا يقسو، الكاتب الحَقّ عينان تحدّقان وأذنان تمتصّان وفؤاد لا يرتوي.


- تشيرُ فرانسواز ساغان في مذكراتها إلى ثلاثة عناوين قد حفرت تأثيراً عميقاً في تكوينها المعرفي، منها «الإنسان المتمرد، قوت الأرض، فصل من الجحيم». ماذا عن الكتب التي تُعد علامة فارقة في حياتك؟
التكوين المعرفيّ هو تراكم، هو ساعات طويلة من القراءة تتغيّر في أثنائها الذائقة الأدبيّة. لا يمكن أن أعدّ في هذا الموضع الكتب التي أثّرت فيّ، فهي من الكثرة بما لا أذكره. أميل عمومًا إلى الكلاسيكيّات وإلى كتب الميتولوجيا. لديّ كتّاب أعشقهم، منهم: موراكامي، خالد حسيني، تولستوي، دوستويفسكي، غوغول، باريكّو، كالفينو، زولا، فلوبير، مالرو، بورخيس، ماركيز، إيزابيل ألليندي، حنّا مينه، يوسف حبشي الأشقر، جبّور الدويهي، نوال السعداوي، غادة السمّان...


• أنا أؤمن بالرغبة التي قد تدوم سنتين أو ثلاث على أكبر تقدير، أما الحب فلا تسألوني عنه. أين تتقاطَع رؤيتك للحب مع مضمون كلام صاحبة «إبتسامة ما»؟
أنا أيضًا لا تسألني عن الحبّ فنظرتي إليه تحرّريّة بشكل فائض. أنا أؤمن أنّ الإنسان كائن متغيّر، وبالسرعة التي يحبّ فيها سيتوقّف كذلك عن الحبّ. وهو أمر مقبول وطبيعيّ وإنسانيّ. أؤمن بالحبّ وبالوفاء وليس بالزواج ولا بالتضحية. الزواج والمجتمع والعائلة والتضحية أمور ضروريّة وجيّدة للمجتمع لكنّها تختلف عن الحبّ ولا تشبهه. من يبحث عن الاستمراريّة في الحبّ كمَن يبحث عن نقطة مطر في الصحراء. أتمنّى لنفسي أن أعيش قصص حبّ كثيرة، لا أن أتزوّج. الزواج هو لمن يخشى الوحدة، والحبّ هو لمن يرتمي في هاوية لا يُرى لها قاع ولا يُعرف لها مآل.


• المال لا يشتري السعادة ولكني أفضل البكاء في جاغوار على البكاء في الباص. هل تعتقدين بوجود الفرق بين التعاسة الباذخة والتعاسة غير المُبهرجة؟
الحياة مكان حزين. فيها الموت وفيها المرض وفيها الخيانة وفيها الغدر وفيها القسوة. الإنسان العاقل إنسان حزين في أعماقه لأنّه يعرف أنّ كلّ ما يقوم به هباء. الإنسان العاقل يدرك أنّه مجرّد شخصيّة في كتاب كبير لا حول له فيه ولا قوّة ولا كلمة. العمر قصير والناس مخيفون والقدر غير متوقّع والرياح لا تجري أبدًا كما تشتهي السفن. ما زلت حتّى اليوم لا أفهم المغزى من حياتنا كبشر، نعيش سنوات من التوجّس والتردّد والتوتّر، نعيش خيبات وآلام وخسارات ثمّ نعيد الكرّة كلّ يوم. أنا شخصيّاً أؤمن أنّ المال يشتري السعادة، يشتري كلّ ما يحتاج إليه المرء ليعيش سعيدًا في ظلّ هذه المآزق كلّها.


• «في النهاية الحياة ما هي إلا العزلة». إلى أي مدى وفّقت ساغان في تعريف حقيقة الحياة؟
طرحتَ عليّ الآن أكثر الأسئلة التي تخيفني. سألتني عن الحبّ وعن الحزن وبقيت العزلة طبعًا. العزلة موهبة، العزلة مقدرة وتدريب وتهذيب للنفس. لقد وضعتُ وشم كلمة «أنا» على يدي بين الإصبعين اللتين أكتب بهما كي أتذكّر دومًا أنّني وحدي في هذا العالم المخيف وأنّني يجب أن أتعلّم أن أعيش مع نفسي. العزلة والوحدة أمران مختلفان: العزلة تهذيب للنفس، والوحدة قدر لا مفرّ منه. يبقى أن يُجيد المرء اختيار معاركه والانصراف إلى شؤونه وتَعلّم الجلوس إلى ذاته لِصقلها وترويضها وتضميد جروحها.

theme::common.loader_icon