خطاب الهوية: حفريات في التشكيلة الفكرية
خطاب الهوية: حفريات في التشكيلة الفكرية
كه يلان محمد
Thursday, 28-Apr-2022 06:02

تدوين السيرة الذاتية والإسترسال في استعادة المراحل التي اختبرها المرءُ على مدار حياته محاولة لفتح قنوات التواصل مع أزمنةٍ شكّلت بمفاعيلها الإجتماعية والسياسية والحضارية مواصفات شخصية للفرد المقيم في عصره، وقد يكون الدافعُ للعودة إلى الماضي هو فتح أدراج ما يعيشهُ الإنسانُ من انعطافة على الزمن البيولوجي، وبالتالي قد يدهمهُ الشعور بالإغتراب عن واقعه ويدركُ حقيقة محدودية فرصته الوجودية أكثر، وربما يكونُ التحولُ من بيئة إلى أخرى قد وضعَ المراقبَ أمام إشكاليات تثيرُ جملة من الأسئلة بشأنِ حيثيات التكوين والنشأة.

ويستمدّ الخطابُ خصوصيته في المرويات السيرية ليس من تعجين مادته وتضفيرها بما هو المشتركُ بين الروايات المتعددة بل بالحفر في طبقات الذات والاستبطان لهواجسها المزمنة ورصد للأطوار التي شهدها الفكرُ خلال عراكه مع الوقائع المختلفة يعلن النصُ عن تفرّده لعلَّ البعد الفكري في السيرة يتمثلُ بوضوح لهذا المنحى المتفرد في صياغة المحتوى. وما يهمُ المتابعُ لمسيرته الفكرية هو الإبانة عن تطوافه بين المآدب المعرفية وما جرّبهُ من التماهي والانفصال في علاقته مع المفاهيم والمنحوتات المعبرة عن الأهواء المتفرقة قبل أن يقعَ العقلُ على ما يستجمعُ به الأهواء. يقولُ شكري مبخوت في كتابه «أحفاد سارق النار» انَّ السيرة الفكرية هي فعلاً سيرة ذاتية غير أنَّ النوع الأول يقومُ على المعطيات الفكرية التي يمكنُ وصفها بالموضوعية، ومعنى ذلك أنَّ السيرة الفكرية لا يكونُ خطها إلا انتقائياً فيما تتحركُ السيرة غير الفكرية باتجاهات مُتشعبة. لذلك يختارُ المفكر اللبناني علي حرب عبارة مركبة «خطاب الهوية» عنواناً لمرويته، مضيفاً إلى العتبة الأولى ما يؤكدُ الاشتغال على طبقات فكرية والتأمل في مكوناتها الموروثة والمُكتسبة.

 

لحظة حاسمة

تكرّ حبة الذكريات في الذهن مع الادراك بوجود اللحظة المفصلية في الحياة لعلَّ الانتقال من بيئة إلى أخرى هو المحركُ للتأمل في المسارات والمُنعرجات التي تنهضُ عليها المادة السيرية، إذ يشيرُ علي حرب إلى حيثيات الواقع الذي بادرَ فيه بكتابة سيرته الفكرية «قد شرعتُ في كتابتها على وقع المعارك التي أكرَهتني على مغادرة بيروت إلى مدينة لارنكا في قبرص 1984»، مُضيفاً أنَّ سطرهُ لم يكن صادراً عن تخطيط مسبق وهذا يعني أنَّ الذاكرة تتداعى صورها طليقة. وما تنفكُ الأسئلة الناتجة عن المقارنة بين وسطين تأخذُ بتلابيب المغترب. أكثر من ذلك يحددّ صاحب «الحقيقة والتأويل» الغرضَ من مشروع الكتابة السيرية، فبرأيه أنَّ ما يرويه المرءُ من خلال المجازات اللغوية والكيانات اللفظية يفتحُ إمكانية التحول والإضافة إلى رصيده الفكري والوجداني كما أنَّ الخطاب الذي يتمُ انشاؤهُ حول المعطيات الوجودية يصبحُ واقعة تتركُ أثرها في مجرى الواقع. ويصرفُ علي حرب عملةَ ماركيز اللفظية «عشت لأروي» صاكّاً منها ما أبانَّ عن الرغبة من الإبدال بين المفردتين من حيث الوظيفة والغاية «نروي لنعيشَ»، ولا تنتهي كلمة المقدمة من دون أن تستشفَ عن أهمية الافتراض الذي يطرحه علي حرب إذ لو سنحت له الفرصةُ لاستئناف الكتابة عن حياته من جديد لاختلفت الآليات وزادَ عنده الحسُ التفكيكي. يفتتحُ القسم الأول من وحدات السيرة بعبارة ماكرة «الفرار من الذات»، هل نفهمُ من الكلام أنَّ المؤلف يريدُ إلغاء ما شكلَ مقومات تكوينه الأولى؟ هل تَعِدُ بيئة المُغترب بفتح صفحة جديدة للحياة؟ إلى أي مدى تدفعُ القطيعة على المستوى المكاني إلى حدوث ما يوازيها في الفكر والرؤية؟ بالطبع انَّ الاستمرار في القراءة هو ما يضعك بوجه ما تبدّل وتغير في صورة الذات. يتسترّ المؤلفُ وراء ضمير الغائب وذلك ما يفصلُ بين الذات الكاتبة والمادة المسرودة كأنَّ من يروي ليس الشخص المتحدث عنه وباطن الأمر أنهما شخص واحد ذو وظيفتين على حد تعبير «شكري المبخوت»، يلتفتُ الرواي من البداية إلى احتدام الصراع على تراب بلد الهارب بين الأطراف المتعددة ملمّحاً إلى عدم اندماج المروي عنه مع الأوساط المالكة لبطاقات القوة. وعليه، يسترسلُ السردُ ويتم الإعلان عن جانب آخر من شخصية الهارب وهو القدرة على قراءة الإشارات، لذلك ما ان يستفتي قلبه عن أوضاع بلده مُستقرئاً التطورات حتى يتخذ قرار الهجرة ولا يقتنع بالرأي الذاهب نحو التفاؤل بالآتي غير أنَّ الذاكرة لا تتبعُ الجسد في مفارقته للمكان. يقولُ المؤلفُ: «انَّ التذكر أشدُّ الأفعال التصاقاً بالذات وأدلّها على حقيقة الوعي» والحال هذه، فمن الطبيعي أن تحاصره أطياف مدينته «بيروت» في الغربة. والسؤال يحومُ حول مدى الأحقية بهجر الأصدقاء والصحف ومرابع الصبا، ولا تفوت الراوي الإشارةُ إلى ما خلّفته التدخلات من التشرذم في بيروت، لكن ما استتاب الوضع لأعتى القوة ولأعظم الدول في تلك المدينة المتفردة بتكوينها الجغرافي وتركيبتها السكانية المتعددة وهويتها الثقافية المَرنة. فبيروت ليست مجرد بقعة جغرافية بل هي قيمة حضارية تميّزت بانفتاح قبل الحرب قلَّ نظيره فكانت نقطة وصل بين عوالم وقارات ومجالاً لتفاعل الثقافات. ما يقولهُ علي حرب عن مدينته الأثيرة يذكّر بكلام غادة السمان التي رأت بأنَّ ما يوجد في بيروت لا تسعه قارّة. وما يلفت نظر المغترب هو الهوة الفاصلة بين المعتقد والسلوك لدى أبناء ملّته. فالصيامُ على سبيل المثال لا يكون ترويضاً للنفس الأمّارة بالسوء بل يؤجج الجشع أكثر بحيث يكون قانون السوق يعلو على أحكام الشرع. تسودُ في بلده قيَم الإيثار والنخوة غير أنَّ ذلك لم يؤدِ إلى التغلب على الكراهية والحسد فيما في مقام الهجرة بَدت له الروابط الاجتماعية متفككة، غير أنَّ الإنسان لا يكنّ مشاعر الضغينة لنظيره. وكان الواقع المنفتح في مقام الغربة قد حَدا به لمحاولة استجلاء خطاب الجنس في الشريعة. ما يعني أنّ الغربة كانت مساحة للمراجعة واعادة تقييم القيم بالنسبة لـ«علي حرب».

 

مستندات التفوّق

فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجبُ عليه أن يتفوّق على نفسه برأي «نيتشه»، لكن هل يمكنُ للإنسان أن يراقب نفسه ويحددُ مستندات تفوقه؟ ربما أنَّ هذه العملية دونها التحديات الجسيمة وتأتي المصارحة مع النفس في المقدمة. وإذا طلبت من أي شخص أن يستعيد تفاصيل يوم يعتبره نموذجياً في حياته تراه يتعثّرُ في تحديد صورة واضحة لمكونات يومه ما يزيدُ من أهمية السيرة الفكرية لـ»علي حرب» هو تمكّن الأخير من سبر اغوار شخصيته وتشخيص الأورام الفكرية والعقائدية كما أنَّه قد تعمّقَ في ما ينساقُ وراءَه الجمهورُ من الأصنامِ والرموز، والمفاهيم الاصطفائية. يطالُ نقدُ المؤلف تَمظهرات الحضارة الحديثة والإنسان المُعاصر، فبنظره لم يعد الغرضُ من الانتاج المنفعة والراحة، ولا هو يبني تعبيراً عن جمالي أو مَيل غرائبي إنما الهدف من الانتاج هو مُراكمة الثورة والتكاثر. ويلمّحُ علي حرب في مفاصل نصه السيري إلى نشأته في بيئة مطبوعة بالتديّن، لكنه يختارُ الفلسفة حقلاً لاختصاصه ويفلحُ من خلال آليّات التفلسف في تفكيك سلسلة إكراهات دينية إلى أنْ يرى في المسلك الصوفي نهجاً أمثَل للحياة. طبعاً، لقد اتخذ علي حرب طريق التصوف ليس بنسخة تقليدية بل بوصفه مجاهدة للنفس تسوية لنتوءات السلوك والأهواء.

theme::common.loader_icon