طبعاً إن الإختلاف في الأذواق والمشارب يُصعّبُ الإتفاق على المعايير المحددة بشأن صورة الكاتب النموذجي. قد يكون المعيار لدى البعض هو غزارة المعلومات التي يقدمها الكاتبُ بين طيّات مؤلفاته أو مواكبته لحركة العصر في اختياره للمواضيع التي يتناولها أو أسلوبه الصادم في مخالفة الأفكار المهيمنة على المشهد كما أنَّ المزاج السائد يلعبُ دوراً في تصدّر عناوين معينة للائحة القراءة. إذاً، يتبدلُ الموقف من شخص إلى آخر بشأن الكاتب النموذجي، ولا شكَّ في أنَّ الأولوية على المستوى الشخصي تتباينُ حسب المراحل والإنطلاقات في هذا المسار اللامُتناهي.
الاستراتيجية
صحيح أنَّ الوصول إلى القارىء هو هدف مشترك بالنسبة لجميع الكُتاب والمبدعين، لكن يختلفُ هؤلاءُ من حيث الاستراتجية والغاية من الكتابة. فمنهم مَن يروّج للأفكار والمفاهيم التي أصحبت بمنزلة عقائد غيبية لديه ساعياً للإبانة عن جدارتها التاريخية. وهناك من يهدفُ إلى حماية التراث والأصالة بوجه موجة التحولات التي يشهدها الواقع الاجتماعي والثقافي داعياً للاغتراف من النبع الصافي مقتنعاً بأنَّ التحديث ليس إلا استرداداً للبضاعة المسروقة. هنا يفرضُ السؤال نفسه هل يُعلنُ النصُ استراتيجيته؟ يرى المفكرُ اللبناني «علي حرب» أنَّ النص لا يفضي بكل مدلولاته بل يستمدُ قوته من حجبه ومُخاتلته وليس من الإفصاح. لذلك يجبُ أن يقومَ فعل القراءة على البحث عن هوية النص ومحمولاته المُتعددة وهذا يتطلبُ وجود الحس النقدي الكاشف لطبيعة المادة المقروءة وأبعادها المضمرة، وبذلك يتم تحويل النصوص من أداة للسيطرة إلى إمكان للمعرفة. يتمثّلُ منهج علي حرب لهذا المبدأ في مسعاه المعرفي وقراءته لمشاريع الحداثة والتجديد، إذ يوافقُ أدونيس في رؤيته حول ضرورة التعامل مع النص بوصفه أفقاً وليس نفقاً. والأهمُ في حفريات علي حرب لخطاب الحداثة ومدونة العقلانيين هو رفع اللثام عن جانب اللامعقول في التكوين الفكري وهو يقول في كتابه «نقد النص» انَّ الفيلسوف يقدمُ نفسه في خطابه بوصفه يحرر العقول وينور الأذهان، ولكن ذلك الخطاب يتسترُ على هوى صاحبه للمفاهيم وبالتالي لن يكونَ النص ما يُنطق به إنما المحجوب منه هو الفضاء الذي يلعبُ فيه الخطابُ ألاعيبه. واللافتُ في هذا السياق أنَّ أصحاب المشاريع العقلانية يقعونَ في شرك ما يريدون الفصال منه، ما يعني انَّ المناهضة في القول للظواهر المتناقضة مع قيم الحداثة والحرية لا تؤسسُ بالضرورة لمشروع مختلف في الجوهر، لأنَّ كلَّ ما يتبدلُ هو إحلال مفهوم مكان مفهوم آخر. وذلك لا يعني التحول في نسق التفكير والتركيبة العقلية. وهذا ما يفسرُ الانتكاسات المتتالية والاخفاق على الصعيد الحضاري. ولا يكمنُ الحلُ في توريد الأفكار من البيئات الأخرى ولا في استعادة الماضي التليد «فكل ما نقتبسهُ عن المحدثين والماضين من الصياغات الفكرية والتراكيب المفهومية هو مجرد معارف جامدة». طبعاً انَّ الانسياق وراء ما يسمى بالحلول السحرية والنهائية هو بحد ذاته المعضلة الكبرى التي لا بدَّ من إدراك مخاطرها على نمط التفكير ودورها المسموم في تفاقم ظاهرة الخبل العقلي. والحال هذه فإنَّ ما يكتسبُ الأسبقية في هذه المرحلة هو عملية نقد النقد. ومن جانبه يشتغلُ علي حرب على صياغة مقولاته «لعبة، السبات الحداثوي، المنطق التحويلي، حقيقة الحقيقة» ونحت آلياته في معترك نقد النقد. وهو يشير في كتابه «الماهية والعلاقة نحو منطق تحويلي» الى أنَّ المشكلة لم تَعُد في صحة العقائد وسلامة المذاهب بل انها تتمثلُ في ادعاء كل واحد أن عقيدته هي العقيدة الصحيحة. ويصرفُ علي حرب المفردات الفلسفية مستثمراً طاقاتها المعرفية فيشتق من عبارة هيغل «كل ما هو واقعي عقلاني» صيغة جديدة «لكل فكر وقائعيته» ويحول ما قاله هوسرل «كل وعي هو وعي بشيء» إلى مفردة أخرى «كل مفهوم هو إعادة تشكيل للذات والموضوع». والحال هذه فإنَّ علي حرب من طينة الكُتاب النموذجين لأنَّه يسحبُ ما تراكم في الذهن من الصور وينزعُ الإطار عن المنحوتات الفكرية على جدار العقل، فهو لا يقدمُ معلومات مُعلبة ولا يسردُ التاريخ ولا السيرة ولا يبشرُ بأنَّ جنة التنوير تكللُ هامة المُستقبل بقدر ما يفككك الخطابات الخادعة وبذلك يتم تنظيف صندوق العقل.
التصحيح
من الفوائد التي يذكرها مارسيل بروست للقراءة، التعافي من حالة الإكتئاب، إذ يدبّ النشاط في العقل الكسول إثر متابعة القراءة والتذوق بطاقة النص التشويقية، يشارُ إلى أن صاحب «البحث عن الزمن المفقود» كانَ متأثراً بوالده، فالأخير ذاعت شهرته في الطب، فأراد بروست من الكتابة أن تضارع الطب في وظيفته الإستشفائية، لكن القراءة قبل أن تكونَ عاملاً للتداوي من الإكتئاب هي محاولة لتضييق المساحة التي تتحركُ فيها الأوهام، وبالطبع لا يصحُ أن تقعَ القراءةُ خارج منطقة الشك، ومن المحتمل أن تتحول القراءة إلى أداة لصناعة الأوهام عندما يسودُ الإعتقادُ بأنَّها من دون غيرها هي قوام النهضة والتطور. وفي الحقيقة إنَّ القراءة هي إحدى الإمكانات المتاحة شأنها شأن أية هواية أخرى وتفقدُ قيمتها إذا لم يحسنْ فهم دورها. يقولُ مشيل أونفري: «لأمد طويل ظننتُ أن حقيقة العالم كانت تكمن في الكتب التي تخبر عن العالم. لكن حقيقة العالم تكمن في العالم». ترى طيفاً نيشتوياً في الكلام وسبق لنيتشه أن نبّه إلى أن القضايا الكبرى توجد في الشارع. ويناقشُ علي حرب مهنة التفلسف موضحاً أن التعامل مع الفلسفة بوصفها الأعلى رتبةً والأشرف صناعةً أوصلها إلى العزلة عن العالم وحجب الكائن وإلى استبعاد الحياة اليومية والمُعايشات الوجودية المحسوسة. وقد يكون المبدأُ الأمثل في عملية القراءة وعدم التعلق بشبكة الحقائق التي يبثّها المؤلفُ بين دفتي كتبه هو ما قالهُ غاستون باشلار عن الحقيقة العلمية على الاعتبار أنها تصحيح متواصل للأخطاء. انطلاقاً من هذا المنطق الجدلي يكونُ الغرضُ من قراءة مزيد من العناوين هو تصحيح لأخطاء ناجمة من قراءة كتب أخرى، هكذا تستمرُ اللعبة القائمة على جدلية الخطأ والتحصيح.