أبيقور والمأدبة الفلسفية
أبيقور والمأدبة الفلسفية
كه يلان محمد
Wednesday, 30-Mar-2022 06:17

تبدّلُ فلسفة أبيقور زاوية النظر إلى النشاط الفكري ولن يكونَ الغرض من التفلسف هو التعلم كيف نموت فحسب؟ بل تفتحُ مجالاً لإعادة ترتيب الأوراق على المستوى الذهني بحيثُ يكونُ العقلُ أكثرَ رشاقة في التأمل من دون أن تفسده شبكة الأوهام، وتبدأ عملية إصلاح حياة الفرد ونمط معيتشه من تغيّرِ تفسيره للظواهر الوجودية، وتحديد العوامل التي تزيدُ من الشعور بالخوف، والتوتر.

من المعلوم بأنّ أبيقور قد رفضَ الإيمان بالخوارق لفهم ما تشهدهُ الطبيعةُ من التحولات وما يعشيهُ البشر من الأزمات المرهقة، فالأولوية في مأدبة أبيقور الفلسفية هي للتشكيلة الذهنية ومنظومة التفكير، وما يؤرقُ الإنسان بالاستمرار هو الموت وبحثه عن العزاء لهذا القدر المحتوم. يقولُ لاروشفوكو انَّ شيئين لا يمكنُ التحديق فيهما الشمس والموت. فعلاً انَّ الالتفاف على الموت بالطقوس والروايات الأسطورية والأمل بفرصة أخرى من الوجود لعبة مجازية يلجأُ إليها الإنسانُ هروباً من العدم الذي يعقبُ دورة الحياة. غير أنَّ هذه اللعبة بخلاف غيرها من الألعاب قد لا تكون مرحةً ولا تكسبُ النفس مرونة بقدرِ ما تصيبها بالتشنج. لذلك يبدوُ بأنَّ ما يصبوُ إليه أبيقور هو تداوي النفوس من السقم الذي تشتدُ مفاعليها كلما زاد الخوف من الموت، وما يرافقُ هذه الحالة من الأفكار المسكونة بالنزعة الإقصائية. والإنسان بطبعه يتخيل الموتَ أكثر مما يتعقَّلهُ ويدركهُ بحسب رأي الكاتب التونسي جلال الدين سعيد، الذي يعالجُ في مؤلفه «فلسفة أبيقور» مشكلة الموت من منظور أوسع مُتابعاً ما ينقلهُ لوكريس على لسان أبيقور بأنَّ الأجدرَ بالإنسان أن لا تشغله المرحلة التي ستعقبُ موته كما لا يفكر في الدهر الذي سبق وجوده. وبدوره، يرى شوبنهاور بأنَّه لو كان خوفنا من العدم أمراً معقولاً لَفاق خوفنا من عدمنا الماضي على العدم في المستقبل.

 

الإشكالية

الخوف من الموت متأصل في طبيعة الإنسان وهو عامل وراء نشوء الخرافات والأساطير، إذ على الرغم من وجود نهاية محتومة تنسحبُ على مصير الجميع. فإنَّ ذلك لم يخففْ من صدمة الموت. كأنَّ بالمرءِ لا يستوعبُ بأنَّ المياه ستجري تحت جسر الحياة بعده وهذا ما عبّرَ عنه نجيب محفوظ على لسان إحدى شخصياته في قصة (فنجان شاي) إذ تقول: «أكادُ أجنّ كلما تصورتُ أنَّ العالمَ سيمضي في طريقه عقب اختفائي». يستبطنُ منطوقُ الكلامِ ما يؤرقُ الكائن الفاني ويرفع اللثام عن الوهم المسكون في أعماقه والأنانية المضروبة بجذورها في سرائر النفس التائقة للخلود. والحال كذلك ماذا يعوضُ هذه الرغبة التي لا تتحققُ ؟ ألا تفسدُ العاقبة المعلومة متعة الحياة ؟ وبالتالي يكونُ من الحكمة التفكيرُ في المآل والإقرار بأنَّ الحياة متاعُ قليل ؟ هل يتمثلُ الخيار الأمثل في الانضمام إلى التيار الهيجسياسي نسبة إلى الفليسوف المتشائم هيجسياس الملقب بالناصح بالموت الذي كان معاصراً لأبيقور واحتقر ملذات الحياة لأنها خاطفة ولا تدوم؟ صحيح أنَّ ما يعيشهُ الإنسان ليس إلا لمحة قياساً بسعة الكون والمساحات اللامرئية. لكن مع ذلك فمن الجحود القول أمام الخيرات المفقودة طبعاً إذا اعتبرنا الخلود خيراً «انظروا عاقبة حياة طويلة» بحسب صياغة أبيقور. وبما أنَّ اللذة هي الخير الأسمى برأي فيلسوف الحديقةِ، والموتُ يمنعهما من الإستمرار فإنَّ خشية الإنسان من الموتِ ورغبته في لذة خالدة مفهومة. غير أنَّ أبيقور يمضي في التأكيد على أنَّ الرغبة في الخلود ليست أمراً طبيعياً لأنَّ الطبيعة لا تناقضُ نفسها وتضعُ مبدأ يستحيلُ تحقيقه. كما أنَّ حظوة السعادة ليست مرهونةً بالخلود، والأهمُ في اللذة ليس الإستمرار والديمومة بل الغزارة والكثافة «كما أن الحكيمَ لا يختارُ الطعامَ الأوفر وإنما الطعام الألذ فهو كذلك لا يرغبُ في التمتع بطول العمر وإنما برغد العيش». يوافقُ موقف فيورباخُ مع هذا الرأي واصفاً الرغبة في الخلود بالزيف والأباطيل والأزلية تتجلى في كل لحظة من لحظات الزمن وفق نظرته. ومن جانبه يرى كامو بأنَّ فكرة الموت تعمقُ من الإدراك للحياة بحيثُ يكون الاستغراق في الحاضر تذوقاً للأبدية. وبهذا يسلكُ مؤلفُ «الغريب» منحىً أبيقورياً في نظرته للحياة وفرصة التلذذ بالطبيعة والتماهي معها وتتجلى حقيقة ذلك في كتابه «أعراس». هناك في الوجود المحسوس تنبسطُ المشاهد المشحونة بالفرح وتتعانقُ في معطيات الطبيعة مباهج التأمل وإمكانية التذوق. ومن الواضح أنَّ اللذة هي مبدأُ أساسي في فلسفة أبيقور ولا ينطلي على الناظر لأثره وجود تضارب فيما يقولهُ بهذا الشأن إذ أورد جلال الدين سعيد في كتابه المُشار إليه سلفاً ما يؤكدُ هذا الملمح في نصوص أبيقور، فمن جانب يخبرُ بأنَّ مبدأَ كل خير وقاعدته هو لذة البطن ويصرحُ بأنَّه لا وجود لخير خارج اللذة الحسية وينقلُ عنه من جانب آخر قوله بأنه ينافس الآلهة في سعادتها لو توفّر لديه قليل من الخبز والماء. ويبدو أنَّ أبيقور كان شخصاً مثيراً للجدل لذلك اختلفت الآراء والمرويات حول مبادىء فلسفته ورؤيته لمصادر المعرفة. يشيرُ جلال الدين سعيد إلى أنَّ أحد أتباع المدرسة الرواقية كتبَ خمسين رسالةً مسيئة ونسبها إلى أبيقور.

 

جوهر التفلسف

أياً يكن الأمر فإنَّ ما يجمعُ بين الأبيقورية والرواقية هو تحقيق الأتاراكسيا «الطمأنينة»، غير أنَّ الطمأنينة لدى أتباع زينون هي حصيلة الوعي بانضمام عقل الإنسان إلى اللوغوس الإلهي بينما ترتبطُ الطمأنينة الأبيقورية بالتغلب على الرغبات اللامحدودة والوعي بما هو مهلك منها، وتقعُ من بين الحكم المنسوبة إلى أبيقور ما يفيدُ بأنَّ العقلَ وليس الزمن يحددُ نسبة التذوق باللذة «يتضمنُ الزمنُ اللامحدود نفس النسبة من اللذات التي يتضمنها الزمن المحدود شريطة أن نقيس حدوده بالعقل»، يكملُ البعدُ الطبيعي في فلسفة أبيقور المسلك العملي فإنَّ الهدف من معرفة طبيعة الكون هو قطع الطريق على الخرافة ومعالجة الخوف وعدم الانسياق وراء التخمينات الباطلة، يقول لوكريس. وهو قد دوّنَ فلسفة أبيقور في قالب شعري «إنَّ العلمَ الذي يبحثُ في نظام الأجرام السماوية من دون أن يحررنا من الخوف الذي تحدثه فينا ليس علماً قادراً على أن يقودنا إلى السعادة». ومردُ هذا الاهتمام بتحسين التفكير في المدرسة الأبيقورية هو القناعة الكاملة بأنَّ نمط معيشتنا واختياراتنا ليس إلا صورةً معبرةً عن تكوين الآراء والأفكار «ليس البطنُ الذي لا يشبع، مثلما يعتقدُ الجمهور ، وإنما هو رأينا الباطل عن قدرته اللامحدودة» كان أبيقور في نظرته إلى الكون ونشوء الحياة أقرب إلى الذريين، وقد حضر دورس نوزيفان الذي تَتملذ على «ديموقريطس» وتتقاطعُ رؤية أبيقور مع ما توصّلت إليه الفيزيا الكوانتية عن خضوع عالم الذرة إلى اللاحتمية. وما يجدرُ بالإشارة أنَّ الحواس هي مصدر المعرفة في المنطق الأبيقوري لأنَّ الإحساس سابق للعقل. والغاية من كل ما يقدمهُ أبيقور في فلسفته الحسية تتمثلُ في صرف الانتباه إلى ضرورة التعقل وعدم التعلق بمفهوم الخلود الذي يقوم على الاحتمال والتأجيل، لذلك فإنَّ التحول نحو السعادة على التو هو جوهر التفلسف. وهذا ما يعيدُ إلى الذهن كلام كامو «أودّ ألاَّ أتخلَّى عن غناي الحاضر».

 

متعة العيش

يكتسبُ الانسانُ في رحاب الفلسفة متعة العيش ومتعة التفكير في آن واحد. لأنَّ حياته لا يخالطُها التوتر المرضي بفعل عامل الخوف ولا ينجرفُ مع الصيحات المبشرة بتحقيق الأحلام الموعودة. أكثر من ذلك فإنَّ فضيلة الإعتدال هي من صميم الاشتغال الفلسفي وذلك يعني التمكّن من الفصل بين الجوهري والقشور في الظواهر والأفكار الرائجة وحماية العقل من طوفان المؤثرات الخارجية. والأهم من كل ما سبق ذكره أنَّ التفلسف أبعدُ ما يكون عن التقيد بتيار معين، لذلك فمن المباح أن تنتقل بين موائد الفلاسفة وتقتات منها كما تشاء وذلك لا يشين إليك أبداً. وما يجبُ الإشارة إليه في هذا المقام أنَّ الفلسفة قبل أن تكون تقليداً أو صرعة فكرية هي تذوق وتأمل ولا يشهدُ المسار الفلسفي تطوراً نوعياً إذا لم تتمَثّل الذات لمتطلباته الجوهرية وهي النقد والتفكيك وإعادة التركيب.

theme::common.loader_icon