علي حرب ومُراوغة اللامرئي في الخطاب
علي حرب ومُراوغة اللامرئي في الخطاب
كه يلان محمد
Wednesday, 23-Mar-2022 06:32

يقتضي تأسيس المشروع الفكري، الإشتغال على المفاهيم السائدة والمقولات المخاتلة بنفس نقدي إلى أن يتمَ ايجاد آلية ناجعة في قراءة المعطيات المُغلفة بقشور المُسلمات والإبانة عن المفارقات المجاورة في المنظومات العقائدية المُقفلة، ومن المعلوم أنَّ إطلاق الألفاظ المدوية واجترار المُصطلحات الرنانة واستهلاك البضاعة الرائجة كل ذلك يعمقُ المحنة ويضخمُ الأوهام المتورمة على المستوى الثقافي، وما يعانيه الواقع الفكري من الركود والارتدادات اللامعقولة يتحمَلُ مسؤوليتهُ دعاة العقلانية ولولا الانسياق وراء الشعارات المُفخخة لما تفاجأنا بعودة التيارات الإقصائية والعقليات المتشبعة بالكراهية. وما داهمنا الجهلُ المستفحل. والأدهى في هذا المشهد هو تكاثر الماكينات التسويقية للمشاريع المُنتفخة والمبادرات الجوفاء ولن تجدَ إلا نادراً من يُنقبُ في طبقات الوهم المتراكمة ويكشفُ عن القيح المتسترُ بالتبهرج والزيف. ويغامرُ بإحداث ثغرةٍ في جدار مقتنعاً بأنَّ كل جدار هو باب بحسب مقولة إيمرسون.

يُمثّلُ علي حرب إرادة معرفية واعية بضرورة التفكيك والتبصر بمكر الأقانيم الفكرية واللاهوتية. والأهمُ في مشروع صاحب «الممنوع والممتنع» هو رفع الغشاوة عن المساحات التي تتقاطعُ فيها الثنائيات المُستقطبة على شاكلة «العلماني واللاهوتي ، العلم والأسطورة، العقل واللامعقول ، المعنى واللامعنى ، الوهم والحقيقة» هذا المنحى التفكيكي قوام لرحلاته الفكرية. ومحور لتَفلسفه ، ومساءلته للمفردات الإشكالية. وبهذا يكونُ برنامجه امتداداً لخط نيتشه في بصيرته ودرايته بطبيعة الخطابات المحمولة بما يحجبُ معنى معناها. وفي الحقيقة أنَّ هذه العملية تريدُ عقلاً حراً ومغرماً بمُنازلات معرفية مرهقة. لا يتعاملُ علي حرب مع اختياره المعرفي بمنطق الدفاع عن الهوية ، لأنَّ ذلك أقرب إلى المنهج اللاهوتي كما لا يتصرفُ بهاجس حماية الحرية تفادياً للوقوع في شرك التهويمات النضالية . الأمر الذي يزيدُ من قيمة مؤلفاته بقدر ما يُحددُ مستوى تلقيها ، لأنَّ مصاحبةَ علي حرب هي بمثابة البحث عن حرية العقل المسكون بنزعة لامعقولة وهذه المهمة لا تعني الراحة بل هي انجاز يتطلعُ إليه المرءُ ويتحققُ بعد صراعٍ مُضن على حد قول نيتشه.


لعبة المعنى
تختلفُ مستويات القراءة وفعاليتها في فض مغاليق النص وتفكيك نظام الخطاب والمفاهيم باختلاف الرؤية والآلية المحركة للتواصل مع الأبعاد الماكرة في الكلام والمنطوق. والمرادُ بالماكرِ هو المحجوب وما لا يتمُ التصريح به هنا يكونُ البحثُ عن المعنى نوعاً من اللعبة لأنَّ اللفظ ليس صورةً للمشار إليه تحديداً لو كان الأمر كذلك لما ذاق المتصوفةُ محنة مع ضيق الألفاظ والعبارة، ولم يكن ثمة اشتراك في اللفظ الواحد وبالتالي غاب المستوى الرمزي في اللغة ومن هنا يتبينُ مغزى عبارة «لعبة المعنى» التي اختارها المفكر اللبناني «علي حرب» عنواناً لكتابه الذي تناولَ فيه جملةً من المواضيع الإشكالية. وهو يثير الشكَ من المقدمة بشأنِ ما يبدو من البداهات المعرفية في العصر الراهن إذ يشيرُ إلى أنَّ الإنسان لا يزالُ نزيل المرحلة البربرية بل ما يشهدُه العالمُ من بربرية جديدة يزيدنا ريبة وشكاً بالآراء والأفكار التي تؤطرُ الإدراك والفهم للوقائع الحياتية، ما يعني أن مراجعة الأنساق الفكرية والتشكيلات الذهنية باتت أمراً مُلحاً. وفي هذا السياق يشيرُ مؤلفُ «التأويل والحقيقة» إلى منهج سقراط التوليدي موضحاً أنَّ إقرار فيلسوف أثينا بجهله لم يكن مجرد تواضعٍ منه بل اعتراف صريح بالعجز عن اثبات الحقيقة ويسمي الكاتبُ هذا الموقف بحقيقة الحقيقة. ولن يكونَ العلم إستثناءً في هذا الإطار إذ يبدأُ العلم بحسب رأي «علي حرب» من مسلمة وينتهي إلى نقطة فراغ، ومن المحتمل أن يعلن الاخفاق في استنكاه أسرار الأشياء ومعرفة أصولها. وعندما يجنحُ الفكرُ إلى الجزم والاعتقاد الصارم يصابُ العقل بالجمود ويخسرُ مرونته إلى أن تغزو جراثيم الإستبداد والفاشية المفضاء المُختنق ويحلُ التكفير مكان التفكير عليه، يواصلُ المؤلفُ لعبته مع المعنى مستقصياً الخطوط اللامرئية بين الألفاظ التي تؤشرُ إلى اتجاهات تبدوُ متقابلة في الظاهر غير أنَّ كل ذلك ليس إلا إمبارلية للمقولات. هكذا يعدنُ المفكر اللبناني «علي حرب» أدواته للتوغل في كينونة النص مُتابعاً ترسب المفاهيم التي حسبها الإنسان الحديث منتهية مفعولها وهي متأصلة في مفاصل الحياة، «فالعلوي والمفارق والمقدس واللامرئي والرمزي والعجيب وكل ما اصطلح عليه باسم الغيب ليس جانباً بدائيا فينا ولا حقبة غابرة من تاريخنا أو مرحلة من مراحل طفولتنا إنما هو جانب أصيل من كينونتنا». ويرمي صاحب «نقد الحقيقة» إلى كشف الغطاء عن الشطر اللامرئي في تركيبة الخطابات المُهيمنة إذ يتضايف برأيه الفكر والوهم لافتاً إلى ما يقولهُ «مانويل دي دياغيه» انَّ كل فكر له طوطماته»، ما يعني أنَّ العلم ليس منفصلاً عن روحية لاهوتية كذلك الأمر بالنسبة للفلسفة ويحفلُ تاريخ المذاهب الفلسفية بأصنام صُنعت من الفكر ومن المتوقع أن يُخْلَعُ على المفهوم صفة ماورائية، وتنصبُ النظرية على عرش المقدس. والأهم في هذا المقام هو الحفر في بنية مشتركة بين العلم والأسطورة إذ تحتاج الافتراضات والأنساق التي يقومُ عليها الحقلان إلى التفسير ويكونُ الإنسان بموقع شهودٍ على الغائب الذي يحيلُ إليه كل من العلم والأسطورة حسب حفريات علي حرب. وهذا لا ينفي وجود الاختلاف في الآليات والأدوات وإذا كان العلم يصنعُ الحدث بواسطة الفروض والنظريات والمفاهيم فإنَّ الأسطورةَ تعولُ على الأحداث أو التاريخ لإنشاء البنى الفكرية. والطريف هو ما ينقلهُ المؤلفُ عن العالم الطبيعي المعاصر «جاك مونو»، فبرأي الأخير أن نشأة العالم الحي حدث احتمالي يشبه الفائز بالجائزة الكبرى في مراهنة «اليانصيب»، طبعا الأجدر بالفائز هو التمتع بفرصته المتفردة بدلاً من الانسياق وراء التعنت واللجاج.


التواضع الوجودي
حققَ الإنسان فتوحات كبيرة مواظباً في سفر كشوفاته المعرفية وهو يتحركُ في فضاء أرحب ولم يعدْ متأملاً السماء من بعيد على غرار الفيلسوف الأول طاليس، بل يجوبُ خارج إكراهات الجاذبية مطوعاً الطبيعة لأغراضه وطموحاته اللامتناهية، ولكن هل يعني كل ذلك أنَّ الإنسان المُعاصر هو أفضلُ وأقلُ توحشاً من أسلافه الذين ساد في بيئاتهم السحرُ والأسطورةُ وكانت حروبهم وصراعاتهم بالأسلحة البدائية؟ يرى «علي حرب» بأنَّ التفوق في البرمجة وامتلاك ناصية العلم لا يرافقهُ التقدمُ في عالم المعنى وعلى هذا الصعيد لا يزال الإنسان إياه ، إنْ لم يكن أكثر تخلفاً وخواءً وإنْ نجح العلمُ في القضاء على الأمراض الجسدية فذلك لا يعني التعافي من السقم النفسي الناجم من جفاف الحس والتذوق، والأسوأ من ذلك أنَّ الإنسان المعاصر يتفلسفُ في التوحش ويمارسُ العدوانية وراء المتاريس العقائدية. زيادةً على ما سبق ذكره فإنَّ الانتصار على المستوى التقني لا يوازيه ما يؤكدُ الأسبقية في الفن والإبداع والفلسفة لذا يلفت علي حرب النظر إلى الأصول الثقافية والفنية والنصوص المقدسة وروائع الفن والشعر وفرادة هذه المآثر الإبداعية ودورها في حماية الكائن البشري من التقيد بالمحدود في الفكر والمشاهدة والإدراك. ما يجدرُ بالذكر أنَّ مؤلف «خطاب الهوية» يطالبُ بالتواضع وضرورة ممارسة هذه الفضيلة على المستوى الفكري والحياتي وربما الغاية من التفلسف واعادة النظر في المفاهيم لدى «علي حرب» هي الكشف عن الخيط اللامرئي بين الخطابات المتداولة لذلك يعتقدُ بأن ذروة الإيمان هي ذروة العبث. فمنطق السببية والغائية هو ما يشتركُ فيه كل من الدين والفلسفة. إذاً ليس الهدف من النقد في منهج علي حرب نقضَ مفهوم لصالح غيره بل التبيان بأنَّ أحدهما ليس سوى الآخر مقلوباً أو محلولاً كما يعلنُ ذلك في مقدمة كتابه «نقد النص» واشتغاله بالمبحث الفلسفي لا يمنعه من التشكك بأقوال الفلاسفة ونمط حياتهم إنما يصل به عدم الوثوقية لدرجة يتوقع بأنَّ هؤلاء لا يمكن الاقتداء بهم ولو سار الناسُ على طريقهم خلت الأرضُ من ساكنيها وعمّ الخراب العمران. ومن المناسب الإشارة إلى نظرة علي حرب للإنسان فهو كائن لا يملك ملء الحرية في ما يفكرُ فيه ويريدهُ ويتأرجح بين منطق الضرورة ولعبة الصدفة. بين العمل المعقلن والشفيرة السرية. يذكرُ أن المؤلف يعتمدُ نصوصَ المتصوفة والعارفين مرجعاً تتجاورُ في كتبه مقولاتهم مع كلام الفلاسفة.

theme::common.loader_icon