صلاة في الكرملين: مشهد خارج حدود الزّمن الضائع
صلاة في الكرملين: مشهد خارج حدود الزّمن الضائع
حسن الدّر
Monday, 24-Jan-2022 06:35

هناك صنف جديد من عمليات التّصوير، هي تقنيّة التّصوير الفوتوغرافيّ، وهي من أهمّ إنجازات عصرنا؛ لأنّها تمنح للإنسان فرصةَ عزل مفردة محدّدة من الخبرة البشريّة، أو قطعة معيّنة من نسيج الأحداث الّتي تلفّ بنا، أو حَجْر إحساس من الأحاسيس الّتي تداعب أرواحَنا في زمان ومكان محدّدين، ضمن قالب مرئيّ، مع محافظة المشهد على جزء كبير من الرّوح المصاحبة للحدث، إنّ عملية التّصوير إخضاع للمادّة الصمّاء وانتزاع جزء من ماهيتها في مشهد قابل للمعاينة خارج حدود الزّمن الضّائع…

الكلام السّابق للكاتب والطّبيب الأميركي «أوليفر وندل هولمز» من عام 1859 عندما بدأ عصر التّصوير الفوتوغرافيّ.

بعد أكثر من 16 قرنًا من الزّمن، ومع تطوّر تقنيّات التّصوير، برزت أوّل من أمس صورة للرّئيس الإيرانيّ «إبراهيم رئيسيّ» وهو يقيم الصّلاة في مبنى «الكرملين» خلال زيارته الرّسميّة الأولى لروسيا.

من بين مليارات الصّور الّتي تُلتقط يوميًّا (حسب تقديرات مواقع غير رسميّة) سوف تُحفر هذه الصّورة في ذاكرة أجيال كثيرة قادمة، ليس لدلالتها الإيمانيّة فقط، بل لرمزيّتها السّياسيّة في زمن التّحوّلات الكبرى الّتي يشهدها العالم والمنطقة.

فعلى أعتاب توقيع الاتفاق النّووي بين الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ودول الخمسة زائد واحد، وفي ظلّ الخروج الأميركي من المنطقة إيذانًا ببدء الحرب الباردة بين أميركا والصّين، ما يحتّم تولّي إيران وروسيا ملء الفراغ الأميركي وإدارة المنطقة وفق مقتضيّات التّوازنات الجديدة الّتي فرضتها كلّ من الدّولتين الجارتين بكثير من الحكمة والصّبر، في مواجهة الأحادية الأميركيّة منذ سقوط الإتحاد السّوفياتيّ عام 1991.

ولكن، ثمّة قراءات متباينة حول مستقبل العلاقة الّتي تربط البلدين، تتراوح بين تطويرها إلى مستوى الحلف الاستراتيجي واعتبارها «حلف الضّرورة»، في مقابل من يرى بأنّ تاريخ البلدين الحافل بالعداوة السّياسيّة والتّباين الأيديولوجيّ سيعود إلى الواجهة بعد توقيع الاتّفاق النّووي وخروج أميركا من المنطقة.

أصحاب الرّأي الثّالث يبنون رؤيتهم على فرضيّة «القلق الرّوسيّ» من تطوّر البرنامج النّووي الإيرانيّ وامتلاكها للقنبلة النّوويّة الّذي سيشكّل لاحقاً تهديداً واقعيًّا لروسيا، فصحيح أنّ دخول إيران النّادي النّووي وخروجها من دائرة العقوبات الأميركيّة سيريحان «موسكو» ظاهريًّا، ويحرّرانها من القيود الغربيّة المفروضة على إيران، إلّا أنّ إيران «الشرعيّة» ستتحوّل إلى منافس طبيعيّ لروسيا في الشّرق الأوسط والقوقاز وبحر قزوين، وهي مناطق نفوذ متداخلة بين البلدين، وإيران تمتلك من القدرات الذّاتيّة ما يؤهّلها لتؤدّي دوراً إقليمياً لا يقلّ أهميّة عن الدّور الرّوسيّ.

وتعتبر سورية، حاليًّا، نقطة احتكاك ساخنة بين البلدين، على الرّغم من التّنسيق العميق بينهما، إلّا أنّ الاعتداءات «الإسرائيليّة» على مواقع للمقاومة في سورية بغضّ نظرٍ، وربّما، رضىً روسيّ، يضع علامات استفهام كبيرة حول النّوايا الرّوسيّة تجاه إيران وحلفائها.

فهل تتعمّد روسيا إيصال رسائل إلى إيران عبر البريد الإسرائيليّ؟

هكذا يعتقد المتضرّرون من التّقارب الإيرانيّ- الرّوسيّ، لكنّ فريقًا أكثر واقعيّة يرى أنّ إيران تتفهّم رغبة روسيا بأداء دور ضابط الإيقاع في المنطقة، وسعيها الى حفظ التّوازنات القائمة بين القوى المتصارعة، وأنّ الموقف المتباين حول «إسرائيل» لا يفسد للودّ قضيّة، فلكلّ دولة رؤيتها ومصالحها وطريقة مقاربتها للأمور.

وعن مستقبل العلاقة بين روسيا وإيران في مرحلة ما بعد الاتّفاق النّوويّ، فالطّرفان محكومان بالتّفاهم والتّوافق وتقريب المسافات بينهما في جميع الملفّات المشتركة، وإذا اعتبره البعض «حلف ضرورة»، فذلك تأكيد على النّظرة الاستراتيجيّة للطّرفين وقناعتهما بالالتقاء حول هدف أسمى من تفاصيل الخلافات بينهما، مهما تعقّدت، وهذا ما لفت إليه «رئيسي» قبل توجّهه إلى «موسكو»، حيث اعتبر الزّيارة أنّها «نقطة تحوّل في علاقات طهران وموسكو، وتعزّز التعاون الاقليمي في مواجهة الأحادية».

والهدف هو مواجهة الولايات المتّحدة الأميركيّة، والاستفادة من انشغالها بالهمّ الصّينيّ لتعزيز دوريهما الاقليميّ، وربّما الدّوليّ لاحقًا، عبر تعزيز وضعيهما الدّاخليّ وتمتين جبهة التّحالف مع الصّين والهند والبرازيل، وغيرها من الدّول الطّامحة لأداء أدوار خارج حدودها.

وأوّل امتحان لعمق العلاقة الاستراتيجيّة بين روسيا وإيران يتمثّل في قدرتهما على ترتيب البيت السّوريّ، بعدما نجحا في هزيمة من حاول هدمه وردم طريق محور المقاومة.

فهل ينجح الطّرفان سياسيًّا حيث نجحا عسكريًّا؟!

بالعودة إلى صورة الرّئيس «رئيسي»، ووصف «هولمز» للصّورة الفوتوغرافيّة، إنّها «مشهد قابل للمعاينة خارج حدود الزّمن الضائع»، وربّما تعيش المنطقة في حدود زمن ضائع بين زمنين: زمن القطب الواحد والأقطاب المتعدّدة، وسيأتي، لاحقاً، من يعاين ذلك المشهد بكثير من التّحليل والتّدقيق..

theme::common.loader_icon