«لا تدعني أرحل أبداً» مساءات الموت الهاربة
«لا تدعني أرحل أبداً» مساءات الموت الهاربة
نسرين بلوط
Tuesday, 18-Jan-2022 06:10

في رواية «لا تدعني أرحل أبداً» للروائي الياباني كازو ايشيغورو، يهطلُ سيلٌ عنيف من الذكريات التي تصبُّ وميضها في دائرة الغموض والتغاضي المفرط حتى لا تتصادم متخبّطة بحشرجة الحقيقة القاتلة ونفائثها السامّة، فكأنّ الحياة تتناسى الموت في موقفٍ دراماتيكيّ بحت، وتخشى أن يمسّها بأذى ويكرّسها لخدمته، ولكنّها لا تنكر حقّه في الوجود ولا تستطيع صدّه أو ردّه.

تروي بطلة القصة كاثي الأحداث غير الاعتياديّة التي عاشتها في طفولتها بأسلوبٍ ذاتيّ مخصّص تماماً، وفي نشوة السرد الخلّاق مارّة بالتفاصيل الصغيرة بكلّ ترسّباتها وانعكاساتها، وصفاء وشحوب أديمها، مع أنّ مرارتها أشدّ أثراً من أيّ ذكرى أخرى.


الوجوه التي مرّت بها كثيرة ولكنّها تركّز على رفيقَي دربها تومي وروث اللذين رافقاها في رحلة الدّرب الوعرة. فقد كانت الحقيقة هناك طوال الوقت، في مدرسة هيلشام التي تشبه السجن المؤطّر بخصوصيّته، ومن خلال نظرات الأساتذة والمعلّمات لهم، وبكاء السيّدة الفاضلة -التي كانت تأتي شهريّاً لتحصل على رسوماتهم وأعمالهم اليدويّة لعرضها في معرضها الخاص- حين رأتها من خلال النافذة تحتضن لعبتها وتغنّي لها وهي ترقص وتتمايل بحنان أغنيتها المفضّلة «لا تدعني أرحل أبداً». لقد كان السرّ قيد الدرس والنقاش بالنسبة لهم، لمّح به الجميع من دون إشراقٍ إنسانيّ أو دينيّ بل بجديّة تامّة ووعي كامل، ولكنّهم تعمّدوا تجاهله خوفاً ورهبة، واكتفوا بتحليلات عابرة في شرذمة فوضويّة تنطق بها إحدى المدرّسات أو ربما يبصرونها في أروقة الهمس التي تدور من حولهم ولكنّهم ينقمون على من يجادل فيها أو يعيرها أقلّ التفات حتى لا تسطو على أرواحهم المشاعر السلبيّة واليأس الجامح.
تنشأ صداقة قويّة بين كاثي وصديقها التلميذ تومي الذي كان يفتقر الى قوّة الشخصيّة والاعتداد بالنفس وتنمية مهاراته الفنيّة، فتدعمه جاهدة بأسلوبٍ ماورائي خفيّ يلحف في تغييره، وتبثّ في روحه رياح الصبر والتجلّد، وتصوّب بصيرته ليرى أخطاءه من دون أن تتفوّه بها أو تنتقدها حتى لا يضيّق عليه النقد أنفاسه.


تقع صديقتها روث في غرامه ليقيما علاقة لم يكتب لها النجاح بسبب الاختلاف المهيمن بينهما في التصرّفات والتفكير والتحليل والتخطيط، ويفترق الثلاثة ذات يوم بعد تخرّجهم من المدرسة وانتقالهم الى مرحلة التدريب في الأكواخ، إذ تزداد هناك الفروقات الانسانيّة بينهم، وتشتعل نيران الغيظ والغيرة في قلب روث تجاه كاثي بسبب اهتمام تومي الدائم بها وتوافقه معها في كلّ الأمور وكأنّه يعيش في ظلّها فتهجره بسخط ونقمة وتعلن العداء والحقد على صديقتها.
تقرّر كاثي أن تغادر الأكواخ لتصبح مرشدة في المستشفيات، لقد انجلَت الحقيقة التي رفضوا الاقرار بها منذ البداية وهي أنّهم أولاد مستنسخون وقد تمّ صنعهم من أجل التبرّع بأعضائهم بحسب قول المسؤولين عنهم، وكأنّ حياتهم قد خلقت من أجل الموت وحده مثل زخم العاصفة التي تصيح وتعربد ثم تلوذ بأفنانٍ يابسة لتنطفئ هناك.


تقوم كاثي برعاية وارشاد العديد من المستنسخين المتبرّعين والمتبرّعات حتى تشعر بالحنين يتدفّق من منبع طفولتها الى روث صديقتها، وقد قال لها أصدقاؤها انّها تقوم بالتبرّع للمرّة الثانية بعد أن كادت تفقد حياتها في المرة الأولى، فتذهب اليها وتلقاها الأخيرة بالترحاب وتصرّ عليها أن تذهبا لرؤية تومي الذي كان يتبرّع بدوره في مركزٍ آخر للمرّة الثالثة.
يسرّ داني برؤتهما ويجتمع شمل الأصدقاء في لوحة طبيعيّة تجسّد مشاعر جيّاشة عارمة، في قفر موحش من العذاب النفسيّ الذي يقضي عليهم بأن يستسلموا لمصيرهم القاتم الأليم وأن يدركوا المنى بدل الهوى الذي تضجّ به عادة نفوس الشباب. توصيهما روث قبل دخولها غرفة العمليّات لتقوم بتبرّعها الثاني أن يجتمعا معاً ولا يفترقا مهما تألّبت عليهما الظروف.
ترحل روث متأثّرة بجروحها، وتعود كاثي لتصبح مرشدة تومي، ثمّ يتّفقان على الذهاب الى مديرة مدرسة هيلشام التي أغلقت أبوابها مؤخًرا في منزلها، والطلب منها بأن تمنحهما تأجيلاً لعمليّات التبرّع حتى يتسنّى لهما قضاء وقت اضافيٍّ سويّاً، فترفض بلطف، مصرّة أنّ هدف وجودهما كان لهدفٍ مرسوم، وأنّ موطنهما الروحيّ هو التضحيّة فقط لا غير.
يموت تومي خلال تبرّعه الثالث والأخير، وتبقى كاثي وحيدة تعمل كمرشدة متشبّثة بطود التصبّر بانتظار أن يحلً دورها في أيّ لحظة لتصبح متبرّعة بحياتها بأكملها.


رواية «لا تدعني أرحل أبداً» قصّة خياليّة ترشق حداثة العلم بعين التحجيم، فالاستنساخ حجرٌ على الإنسانيّة الشاملة، وتقليصٌ لها وتحجيمٌ قاتلٌ للنفوس، وترحيلٌ للعواطف البشريّة في تدجيلٍ وتصغير، وقد نجح الكاتب كازو ايشيغورو الحائز جائزة نوبل في الأدب، في تهيئة جوّ خياليّ ملائم لذهنيّة المتلقّي حتى ينغمس في فلسفة محوريّة مفادها أنّ التطوّر له حدودٌ لا يمكن تجاوزها والنبش في جدرانها المحفّرة بالعار، ورغم خلوّها من العواطف المحتدمة إلا أنّها نجحت في النهاية بأن تذرف دمعة حبيسة على كاثي التي انتظرت لقاء صديقتها وحبيبها فشيّعهم الموت بمطرقته إلى ظلمات القبر، ولم يبقّ لها إلّا انتظار حتفها الأخير.

theme::common.loader_icon