«الرباط المقدّس» ثورة الحكيم على المرأة
«الرباط المقدّس» ثورة الحكيم على المرأة
نسرين بلوط
Tuesday, 07-Dec-2021 06:28

لربّما كان الكاتب الكبير توفيق الحكيم من دعاة التحفيز لمن يؤوّلون مصدر سببيّة الشرور على وجه الكون ومرجعيّتها لحوّاء التي بحسب منطقهم، هيمنت على كنه المحرّمات وتجرّدت من الرصانة والحكمة ودفعت بآدمها نحو الأرض. وقد تجسّمت أفكاره في روايته «الرباط المقدّس»، ناطقة برأيه رغم غرابة القصّة التي أطّر من خلالها فئة معيّنة من النساء في حيّز الخبث والمكر والخديعة والخيانة، وعمّم قليلاً وجهة نظره لتشملَ معظمهن، وكأنّه يرى المرأة تقف حائلاً بين هداية السماء وحجب الظلام، أو تتراءى له بفكر ابليس الذي يلج مناطق الضعف في الصدور ويعرّي الأرواح من غلالة عفّتها، ويمضي بها قدماً نحو مزالق الهلاك ومحاور الخطايا والبلاء.

في قصة «الرباط المقدّس» صراع ناسك الكلمات حسب وصف الحكيم له، تشديداً منه على ولهه بالأدب، وهو من سخّر عمره للفكر والكتابة والثقافة والمعرفة، ولم يحبك صلة مع عالم المحسوسات واللذة الذي أقبلت عليه به ذات يوم امرأة سعت اليه، راجيةً منه أن يلقّنها أصول الأدب ومبادئه ويرغّبها في القراءة التي لطالما مقتتها، في محاولة منها للتقرّب من زوجها المثقّف الذي يعشق المطالعة، ويرى نقصاً في علاقتهما التي خلت من رياحين المعرفة المتبادلة، وكانت قد تعلّمت لعبة التنس وتمرّستها في فترة وجيزة لكسب رضاه رغم نفورها منها، وها هي تحثّ عزيمتها لتتعلّم حبّ الادب وتبرع فيه لتلحق بركب زوجها في إقباله عليه وتبرهن له عن ولائها وسعيها لرضاه.

 

بعد التفكير يوافق ناسك الحروف على مطلبها، لأنّ ناسك الدين يقبل هداية الضالّين، وهو بدوره عليه القيام بواجبه في ترغيب وتقريب الآخرين من عالم الفكر وواحة الأدب، وقد قرّر أن يمدَّ لها يد العون ويكون بمثابة المرشد للوحي الوجداني الذي يصبُّ في خانة التّوجيه والتدريب لأصناف الأدب، وبدأ بأن أعطاها من دون تفكير، رواية «أناتول فرانس» التي تتكلم عن الراهب الذي عشق تاييس بمفاتن روحها دون أن يتطرّق لمحاسن جمالها وثورة جسدها الأخّاذ، وقد حام حوله الرجال كالوحوش الضاريّة التي يجتذبها الحمل الوديع لتراوده عن براءته لتفتك به وببهائه.

 

وتكرّرت زياراتها له، وبدأ بالاعتياد عليها، ثمّ حضر ذات يوم إليه زوجها ليتعرّف اليه، وينبئه أنّ زوجته تغيّرت وباتت تعشق قراءة كتبه، من دون أن يعرف بأنّها تتردّد فعلاً على الناسك. وعندما واجهها في الزيارة التّالية بما عرفه عن جهل زوجها بأمرهما، أخذت الموضوع على عاتق التهكّم ولم تعبأ بعواقبه، فاضطرَّ أن يصرفها عنه بوجوم وحدّة فغادرته بهدوء ولم تعد إليه..

 

انتظرها لليالٍ كثيرة ظانّاً بأنّها ستعاود الرجوع، ولكنّها اختفت مثل السراب المتدفّق من عيون الضّباب، كشبحٍ لم يكن له من أثر. ولم يكن يعرف لها عنواناً أو رقم هاتف، فراح يجوب النوادي والمقاهي علّه يلمحها برفقة زوجها مصادفةً دون جدوى.

 

وعندما تلاشت بكيانها عن وجوده بدأ الشوق يعبث بتلابيب صدره، وراح يكتب إليها رسائل بريئة تحفل بالأشواق، وقد اصطفاها فيها الى مرتبة الملاك الحارس الذي يسهر على راحة الآخرين، وشبّهها بالنساء اللواتي أهرقن الغالي والرّخيص على مذبح التضحيات مثل ماري آن زوجة السياسي دزرائيلي، وكذلك زوجة كارل ماركس، وايزيس المصريّة التي حكمت المملكة خلال رحلات زوجها أوزوريس في الحرب بحكمة، وبعد أن قتل بدسيسة ماكرة من قِبل أخيه، راحت تجمع أشلاءه وهي تجوب بقاع الأرض لسنوات دون كلل. بل ذهب به الأمر ان عقد مقارنةً بينها وبين السيّدة خديجة زوجة النبيّ محمد بأخلاقها وحنوّها ورقّة طبائعها.

 

مرّت سنة دون أن تعاود الظهور، فقرّر القيام برحلة الى حلوان، وإذا به يلمح زوجها في بهو الفندق الذي أقام فيه، وهرع اليه الأخير فسلّم عليه، وأخبره أنّ زوجته ما زالت في مصر، وأنّه جاء برفقة ابن خالته الذي يعمل ضابطاً في الجيش، وسلّمه واجماً كراسة عثرت عليها بالصدفة خادمة منزله، وعندما فتحها وجد فيها اعترافات مذهلة مكتوبة بخطّ يد زوجته، تعترف من خلالها بقيامها بخيانته مع ممثّل وسيم التقته بالصدفة وقرّرت أن تثور على كلّ الممنوعات والقيود الرجعيّة في نظرها والتي تحرّم خيانة الزوجة، وتقيم معه علاقة جسديّة متحرّرة ومجرّدة من الضمير، لتضيف طعم الحداثة الى حياتها، وهي التي كانت تراها ضروريّة في المجتمع المعاصر، ومتاحة سرّاً إذا ما رغبت السيّدات بها. وقد ورّطت زوجة ابن خالة زوجها الضابط في إقرارها، حيث لمّحت بأنّها أيضاً قد خانت زوجها سرّاً.

 

اضمحلّت الهالة الذهبيّة السامية التي أحاط بها الناسك محبوبته، وتهدّلت ملامح السموّ التي اصطفاها بها عن غيرها من النساء، وبات ملاكه شيطاناً، وانقلب احترامه لها الى ذهول واحتقار، وانجلت الغشاوة التي حجبت عينيه عن حقيقتها، وأدرك أنّه يقع في فخّ الخداع ونصب لها صرحاً وهميّاً هشّاً من رمال يناقض حقيقتها، سرعان ما بدّده الواقع وأزاله.

 

وما زاد الأمر عسراً هو طلب زوجها منه أن ينبئها عن قراره بالانفصال، لعجزه عن مواجهتها بسبب نفوره الشديد منها، فيقبل الناسك طلبه حسيراً حزيناً، ويتصل بها فتأتيه متبخترة بصباها، مفسحةً الطريق لإثمها في البروز من خلال طريقة لبسها وتأنّقها المبتذل. تنكر في بادئ الأمر بأنّ هذه الاعترافات واقعيّة، مدّعية بأنّها مجرّد تجربة لها في عالم الكتابة، وأنّها أرادت أن تبرز قدرتها على ابتكار قصّة مثيرة، لكنّ ناسك الأدب يجرمها بسبب أنّ الحوادث كتبت بأحاسيس مفعمة وجيّاشة، وهذا الأمر لا يقدر عليه أصحاب الخيال وحدهم من دون تجربة حقيقيّة منقولة عن الواقع، فتقوم هي بالمحاولة الأخيرة وتسافر الى زوجها في حلوان لتقنعه بنفس الحجّة فيهرب منها ولا يصدّقها، ولا تجد أمامها في نهاية الأمر ملاذاً سوى التّسليم بالانفصال وكتابة تنازل عن حضانة ابنتها للزوج، وتحاول في النّهاية أن تمارس سحر اغوائها على الناسك، وتكاد تنال مرادها ولكنّه يستجمع قواه في اللحظات الأخيرة ليقاوم سلطان جمالها وجاذبيته الهائلة.

 

ينتحر ابن خالة زوجها لشكّه في سلوك زوجته بعد أن ورّطتها زوجة قريبه في مذكّراتها، ويختم الحكيم روايته بالحياة الروتينيّة التي عاد الناسك يعيشها بهدوء وحكمة، وقد تناهت الى مسمعه زواج الخائنة من رجل تافه يقبل أن يعيش على هامش الشرف مبهوراً بالحداثة المبتذلة.

 

توفيق الحكيم أظهر عداء واضحاً نحو المرأة التي قطفت تفاحة الإغواء المحرّمة دون سواها حسب تقديره، وهبطت برجلها الى الأرض لتفترشها في ما بعد بصخبها وتعطّشها للحريّة، وقد ينمّ هذا العداء نفسه عن تجربة مريرة خاضها الحكيم في حبّ امرأة لوّنت حياته بخيبة ما، وهو لا يرى حسب تصريحات سابقة له حضارة قامت من دونها ولكنّه يخشاها لحبّها الاستئثار بكلّ شيء، ونزعتها للتملّك والسيطرة حسب زعمه، وهو يناقض نفسه بين شعور الاحترام ازاءها وبين الإحساس بجبروتها ومكرهاً الذي لا يسلم من شروره أحد.

theme::common.loader_icon