من الخطأ الجسيم التعاطي مع الانتخابات النيابية المقبلة على أنها كسابقاتها، لا بل هي تختلف الى حد بعيد عن تلك الانتخابات التي أخذت طابعاً تاريخياً اذا صحّت التسمية، كمثل الانتخابات التي تلت الانسحاب السوري من لبنان عام 2005 او تلك التي دشّنت مرحلة سوريا في لبنان عام 1992.
فالانتخابات النيابية المقبلة مرسوم لها أن تؤسّس لانتقال لبنان من مرحلة الى أخرى وأن تكون منعطفاً تاريخياً، في موازاة التبدلات التي يشهدها الشرق الاوسط وسط ما بات يعرف بإعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة.
والى جانب التبدلات الاقليمية الهائلة والعميقة بَدا واضحاً ان الظروف اللبنانية الداخلية اصبحت ناضجة للارتكاز على بناء لبنان جديد. فلدى اللبنانيين نسبة مرتفعة من القلق الحقيقي حيال مستقبلهم ومستقبل بلادهم، خصوصاً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. وهذا ما يجعلهم يتشاركون احد ابرز التحديات المنتظرة في إعادة بناء مجتمع سياسي سليم يقوم على اسس صاخبة وصحيحة. ذلك ان معظم اللبنانيين يعتبرون ان الغضب والاحباط الموجودين لديهم ناجمان من الطبقة السياسية وان السلوك السياسي هو الذي أدى الى الازمة المالية والمعيشية التي تعصرهم.
مؤسسة «الباروميتر العربي» arab - barometer، وهي مؤسسة اميركية متخصصة تهتم باستطلاعات الرأي في البلدان العربية، أجرت ثلاثة استطلاعات منفصلة عن الوضع في لبنان وتطوره بين عامي 2020 و2021، وخرجت بأرقام ونتائج تعزز هذا الانطباع، وتظهر مقدار التبدلات العميقة التي اصابت اللبنانيين.
واظهرت نتائج هذه الاستطلاعات انعدام ثقة اللبنانيين بالطبقة السياسية، وتوقهم الى حصول اصلاح سياسي، مع وجود رغبة لدى اكثر من نصف اللبنانيين بالذهاب في اتجاه نظام مدني (اي غير طائفي) او علماني.
واشارت الارقام أيضاً الى سعي اكثر من نصف اللبنانيين الى الهجرة بحثاً عن فرص عمل افضل في الخارج، وان الفساد هو السبب الرئيسي لطلب الهجرة.
فحول درجة القلق من احتمال خسارة العائلة لمصدر دخلها الرئيسي خلال السنة المقبلة، أعربَ 61 % عن قلقهم الشديد و30 % عن قلق نوعاً ما، في مقابل 6 % فقط يشعرون بقليل من القلق و3 % لا يشعرون به اطلاقاً. وهي ارقام تدفع الى رسم علامات استفهام خطرة حول المحافظة على الاستقرار العام في حال استمرار الاوضاع على ما هي عليه.
ووصلت نسبة الراغبين بالهجرة الى حدود 48 % وان الدافع وراء هذه الرغبة هو الفساد بنسبة 44 % والاسباب الامنية 29 % والاسباب السياسية 22 %.
لكنّ الخطير هو ان 61 % من الراغبين بالهجرة هم من اصحاب الشهادات الجامعية، و45 % منهم من اصحاب الشهادات الثانوية. وفي تقسيمهم وفق الفئات العمرية، فإنّ 63 % من الفئة ما بين 18 و29 عاماً يرغبون في الهجرة، و50 % ما بين 30 الى 44 عاماً، و33 % للفئة ما بين 45 و59 عاماً. اما الفئة العمرية لما فوق 60 عاماً فإن نسبة الراغبين في الهجرة فيها سجلت 12 % وهو ما يعني ان لبنان يفرغ من طاقاته الشبابية والعلمية، وانه يسير بسرعة في اتجاه أن يكون بلداً هرماً مع من سيبقى فيه اذا ما نجح الراغبون بالهجرة في ترك بلادهم.
والأهم ان نسبة 89 % من اللبنانيين يعتبرون أن الفساد منتشر بدرجة كبيرة. والدافع الذي يرتكز عليه اللبنانيون لإيصال طبقة سياسية جديدة، يتعلّق بتوقعاتهم المتشائمة حيال المستقبل، في حال لم تحصل تبدلات جذرية للطبقة السياسية الحاكمة. ذلك ان 46 % من اللبنانيين يتوقعون ان تسوء الاوضاع اكثر للسنتين او السنوات الثلاث المقبلة، و18 % يتوقعون ان تسوء قليلاً، و16 % فقط يتوقعون ان تستمر الامور وفق المنحى الحالي، فيما يتوقع 15 % فقط تطور الامور نحو الافضل. وكان من المنطقي ان يُصنف 91 % من اللبنانيين الوضع الاقتصادي بالسيئ جداً و9 % يكتفون بوصفه بالسيئ فقط.
هذه الارقام التي تعطي الانطباع أنّ اللبنانيين سيذهبون الى الاقتراع في الاستحقاق النيابي المقبل على اساس ما يشبه «الثورة» على التركيبة السياسية الحالية، يطرحون في الوقت نفسه رؤيتهم لنظام الحكم الذي من الممكن ان يشكل حلاً لهم. فعلى سبيل المثال هناك 56 % يؤيدون اقرار النظام المدني او العلماني. وهذا ما أظهرته نتائج بعض الانتخابات الجامعية، في مقابل 23 % يؤيدون الذهاب الى نظام فدرالي طائفي و15 % فقط يريدون استمرار النظام الحالي أو قيام نظام طائفي يشبهه.
اللافت هنا مسألتان: الاولى أن 47 % من هؤلاء يرفضون التخلي عن الامتيازات الطائفية الموجودة، طالما انه لم يجر اعتماد نظام سياسي آخر. وهو ما يعكس الخوف او عدم الثقة. والثانية هو ان المسيحيين هم الاكثر تأييداً لنظام الدولة المدنية او العلمانية بنسبة 72 %، مقارنة بأقل من النصف لدى المسلمين سنّة وشيعة.
صحيح ان هذه الاستطلاعات التي أجرتها مؤسسة «الباروميتر العربي» إنما حصلت قبل تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، الا أن مطالب المستطلعين اللبنانيين اشارت وبنسبة 55 % الى أنها تنشد خفض تكلفة المعيشة وهو ما لم يحصل لاحقاً، اذا لم يكن قد حصل عكس ذلك مع تطبيق سياسة رفع الدعم.
اما نسبة 16 % فطالبت بأولوية خلق فرص عمل جديدة و7 % دعت الى تشجيع الاستثمار الاجنبي و6 % لإصلاح النظام التعليمي.
وحول ملف انفجار مرفأ بيروت، والذي أدى الى توقّف عمل الحكومة، فبَدا انه ليس حدثاً منفصلاً عن المسار العام للبنانيين، انّما شكل جزءاً من المشكلات الكبرى التي تواجه البلاد. ذلك ان ثلثي اللبنانيين اعتبروا ان سبب الانفجار هو الاهمال والفساد، في مقابل ما نسبته واحد على خمسة يعتبرون أنه يدخل في نطاق العمل الارهابي. وطالبَ 41 % بخبراء دوليين مستقلين للقيام بالتحقيقات المطلوبة، في مقابل 46 % للجيش والاجهزة اللبنانية. وهو ما يعكس ثقة عالية بالمؤسسات العسكرية والامنية في مقابل فقدان الثقة بالطبقة السياسية والتي يحمّلونها مسؤولية الفساد.
وفي اطار التراتبية طالبَ 16 % بإعادة اعمار بيروت في مقابل 32 % طالبوا بإصلاحات مصرفية ومالية، و37 % بتوفير شبكة امان اجتماعي، وهو ما يعني انّ 69 % يطالبون بأولوية واقعهم المعيشي والمالي.
اما على مستوى الخيارات السياسية الخارجية، فأعربَ 33 % عن عدم رضاهم اطلاقاً على تقييمهم للولايات المتحدة الاميركية و31 % غير راضين نوعاً ما. في مقابل 4 % راضون جدا و23 % راضون نوعاً ما.
وجاءت النسب بين الطوائف حول الذين هم راضون جدا او نوعاً ما كالآتي: 51 % من المسيحيين، 15 % دروز، 12 % سنّة و2 % شيعة.
اما بالنسبة الى الصين، فإنّ 36 % راضون نوعاً ما و3 % راضون جدا، و24 % غير راضين نوعاً ما، و23 % غير راضين اطلاقاً.
وبالنسبة الى التقييم تجاه روسيا: 39 % غير راضين اطلاقاً، 11 % غير راضين نوعاً ما، 26 % راضون نوعاً ما، و10 % راضون جداً.
وفي التشريح الطائفي، فإنّ 43 % من المسيحيين راضون جداً او راضون نوعاً ما عن روسيا، و55 % من الشيعة و37 % من الدروز و4 % فقط من السنة.
أما عن فرنسا: 6 % راضون جدا، 40 % راضون نوعاً ما، 23 % غير راضين نوعاً ما و21 % غير راضين اطلاقاً.
أما تقييم ايران فجاء كالآتي: 51 % غير راضين اطلاقاً، 13 % غير راضين نوعاً ما، 12 % راضون نوعاً ما و11 % راضون عنها جدا. ووفق التشريح الطائفي فإنّ الذين قالوا انهم راضون او راضون جدا كانت نسبتهم 68 % لدى الشيعة، 10 % لدى المسيحيين، 5 % لدى الدروز و4 % لدى السنّة.
وأخيراً مع التقييم للسعودية، فإن 47 % غير راضين اطلاقاً، و15 % غير راضين نوعاً ما، و18 % راضون نوعاً ما، و7 % راضون عنها جداً.
وفي التشريح الطائفي للذين هم راضون أو كانوا راضين جداً، فكانت نسبة 39 % للمسيحيين، 34 % للسنة، 3 % للدروز، و1 في المئة فقط لدى الطائفة الشيعية.
في اختصار، هذه الارقام والنسب التي تعكس التبدلات العميقة في المزاج الشعبي اللبناني، تؤكد هي ايضاً ان الانتخابات النيابية المقبلة ليست أبداً كسابقاتها، وأنها تؤسّس لواقع مستقبلي مختلف. أمّا قيام الطبقة السياسية بتأجيل الانتخابات فلن يؤدي سوى الى انفجار واسع للكبت الموجود.