«أوغست كونت» عالِم الإجتماع الذي انحدر إلى عالم الحبّ
«أوغست كونت» عالِم الإجتماع الذي انحدر إلى عالم الحبّ
نسرين بلوط
Monday, 27-Sep-2021 06:33
قد يتركّز تفكير القارئ عندما يقرأ إسم العالِم «أوغست كونت» في نظريّته التي تقوم على ثلاث حالات ساهمت في تطوير الفكر البشريّ والإنسانيّ، وهي اللاهوتيّة والميتافيزيقيّة والوضعيّة، معتبراً أنّ كلّ جزءٍ من النظام الإجتماعي يؤثّر ويرتبط ارتباطاً جليّاً بغيره من الأجزاء. وقد منح المرأة والوطن الجزء الأكبر من اهتمامه وبحثه في أهميّة وجودهما على الصعيد الإنساني، ولكنّه ضمنيّاً كان يبحث عن معشوقته التي تجرّدت من الموت بالنسبة له، وبقيت على قيد الحياة تسكنه، رغم الوجع الذي انسكب على صدره عند رحيلها عنه، وهي التي أشفقت عليه ولم تحبّه أو تشعر بميلٍ إليه في يومٍ ما.
 

وقد ذكر الكاتب طه حسين في كتابه «ألوان»، قصة الفيلسوف كونت الغريبة، التي بنظره تُعتبر أعجوبة في عالم الفلاسفة الذين يؤثرون الحكمة ويعتبرونها أساس الحياة ومحرّك العقول والتصرّفات والمواقف، وإلّا انجرف العالم وراء عواطفه وغادر مدينته الفاضلة وبات رجلاً عاديّاً يرتاد المقاهي ويجلس بين الناس ويهدر وقته في الفراغ.

 

يقول الأديب طه حسين واصفاً حالة كونت: «لم يعرف التاريخ عاشقاً من عشّاق أثينا، استطاع كما استطاع فيلسوفي العظيم (كونت) أن يشرك معها امرأة من النساء في حبّه وهيامه، وأن يختصّها من هذا الحب والهيام بمثل ما اختصّ به آلهة الحكمة نفسها، وأن ينتهي به الأمر إلى أن يخلط ابنة زوس بابنة ابيس، ويتّخذ منهما شخصاً واحداً، يحبّه ويقدّسه ويصوغ له ديناً قويّاً خصباً، ويحاول أن يبسط سلطان هذا الدين على الإنسانيّة كلها، أو على الإنسانيّة المسيحيّة على أقلّ تقدير».

 

تبدأ قصّة هذا الفيلسوف الفريد، عند نبوغه في الدراسة في مادّة الرياضيّات التي علّل أنّ لها صلة بباقي العلوم، فقرّر أن يمخر نظام الحياة ويربط بين الثورة التي قامت آنذاك والحياة الأوروبيّة، فتمخّضت عن تجربته وتفحّصه الدقيق نظريّته، وهي نظريّة الفلسفة الوضعيّة.

 

لم يلقَ إقبالاً غزيراً على دعوته الفكريّة الإجتماعيّة التي تقوم على مبادئ تتوسّع في المنطق، فأدار ظهره لها قليلاً من الزمن ليعيش بعضاً من الترف العاطفيّ، وأحبّ امرأة جشّمته الآلام والمتاعب، ظنّها رزينة فتبيّن له عكس ذلك، بعد أن تزوّجها ولم يستطع أن يقوّم من سلوكها، فحاول أن يلقي بنفسه في النهر لكنّ الشرطة أنقذته وأودعته في مستشفى للمجانين أقام فيها فترة ثم خرج منها ليستأنف دراسته وتدريسه، ثمّ عاودته أفكارُ الجنون والعشق حتّى قرّر الإنفصال عن زوجته عن طريق الهجر، لأنّ القوانين الفرنسيّة لم تكن تسمح بالطلاق في ذلك الزمن البعيد.

 

وقد بدأت قصة كونت الحقيقيّة عندما صادف في كليّة الهندسة التي كان مدرّساً فيها، تلميذاً يافعاً يدعى «مكسيمليان ماري»، فاتصّلت بينهما خيوط الودّ والمحبّة، ودعاه التلميذ إلى منزله وهناك التقى بشقيقته «كلوتيد» التي كانت في وضعٍ اجتماعيٍّ معّقد، فهي ليست متزوّجة وليست مطلّقة، فزوجها كان يعمل جابياً للضرائب، ولكنّه هرب ذات يوم بعد أن بعثر أموال الدولة وبدّدها في لعب الميسر، وترك زوجته الشابّة تتوارى وراء نقاب الحزن وتلجأ للكتابة حتى تنفث آلامها المتراكمة.

 

على الفور، وقع كونت في غرام كلوتيد، وبسط لها ذراعيه عارضاً عليها حبّه راكعاً أمام قدميها، ولكنّها صدّته بلطف وبحيلٍ مختلفة في كلّ مرّة، رغم إعجابها بفكره وعلمه واتّزانه، ولكنّ منظره الخارجيّ المنفر جعلها تتراجع كلّ مرّة كانت تهمّ في إعطائه وعداً بالزواج أو الارتباط.

 

لبث كونت وحيداً مفكّراً في كيفيّة التقرّب من معشوقته، ولم ييأس ولم يزده الفشل إلّا إصراراً على النّجاح، وراح رغم دخله الشهريّ المحدود، يساهم في مصاريفها ويشجّعها على نشر كتاباتها، فنشرت كتابها الأوّل ولاقى نجاحاً لا بأس به، وأبقت هي على حجابٍ فاصل بينها وبينه لا تسمح له بتخطّيه، فثارت عائلتها عليها وأمرتها أن تمنع الفيلسوف عن زيارتهم، خصوصاً بعد أن رسب شقيقها بسببه في امتحانه الأخير، حيث كان بحثه في نظر كونت فاشلاً ولا يستحقّ النجاح، ولكنّها دافعت عنه واحتجّت بضراوة، وواصلت علاقتها معه إلى أن يأتي يوم تسقط فيه طريحة الفراش عليلة ضعيفة، فيسرع كونت ليأتي لها بطبيب يشخّص مرضها تشخيصاً خاطئاً. وتتطوّر حالتها ليكتشف أخيراً أنّها مريضة بالسلّ وستموت بعد فترة قصيرة، فيستدعي أهلها الكاهن لتعترف بين يديه الاعتراف الأخير، ويعترض كونت، بحجّة أنّ وجود رجل الدين يمنح شعوراً تشاؤميّاً للمريض بقرب أجله، ممّا يؤثّر ويسرّع في تدهور وضعه، ثمّ يمنع أهلها حضوره فيبكي بكاء مرّاً، حتى يعده والدها أنّه سيعز إليه إذا تطوّرت حالتها فيذهب إلى منزله في حالٍ من الإنهيار.

 

وعندما تشرف على النهاية، يستدعي والدها كونت، فيتّجه من فوره إلى غرفتها ويغلق الباب خلفه، إلى أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، فيخرج الفيلسوف من عندها دون أن يشيّعها إلى القبر. فقد انتهى إلى معادلة صعبة أنّه لم يصل إلى روحها وجسدها فأقامت في عقله وقلبه ولم تمت، وهي تقاسمه هذه الحياة الفانية لتمتزج روحها بروحه عندما يفنى جسده. فيمارس حياته بانتظام ويعود إليها بعزم وحيويّة. هكذا كان عزاؤه وتحليله. وقد قال الكاتب طه حسين في هذا: «عكف الفيلسوف في داره على هذه الصورة، يعبدها ويهيم بها، وما هي إلّا ان استحال حبّه لكلوتيد ديناً وضعت له التقاليد وألوان الصلوات والعبادات. وأغرب من هذا كلّه أنّ الحياة الظاهرة للفيلسوف لم تتغيّر. فدروسه كانت تُلقى في نظام ومجلّاته كانت تُقرأ ويردّ عليها في نظام أيضاً. ما أعجب أمر الإنسان تراه ساذجاً يسيراً وإنّ شخصه لشديد التعقيد».

 

أوغست كونت، عالج علم الاجتماع معالجة تملك النفس اعجاباً وزهواً به، ولكنّه جبن أمام سياط العشق، كأيّ عاشقٍ لا يرى من معشوقه سوى البهاء والنقاء، كما حلّل الفيلسوف ابن حزم في فلسفة الحبّ، بأنّه حقيقة لا منصرف عنها ولا تخلّص منها.

theme::common.loader_icon