الأجواء الداخلية ملفوحة بالهواء الباريسي الذي قدّم للحكومة جرعة إنعاش، مع استضافة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي. على انّ التعويل الداخلي يبقى على ما إذا كانت هذه الجرعة ستليها جرعات تنفيذية قريبة، تؤسّس لما ينتظره اللبنانيّون من فتح لأبواب المساعدات الدولية، إنفاذاً للوعد الذي سبق ان قطعه ماكرون بقيادة تحرّك بعد تشكيل الحكومة، لحشد الدعم للبنان.
لا شك انّ حضور لبنان في باريس في هذه الفترة، يكتسي أهميّة لافتة، ربطاً بمسارعة باريس إلى احتضان الحكومة اللبنانية، في وقت تنشغل فيه باريس في ملفات معقّدة، ليس اقلّها أزمة الغواصات مع اوستراليا والالتباس الحاصل في العلاقة بين فرنسا والولايات المتحدة الاميركية، ما يعطي اشارة إلى أهميّة موقع لبنان بالنسبة الى فرنسا، كنقطة حضور ودور، معزّزة بعلاقات تاريخية بين البلدين.
باريس: شريك
وإذا كان الرئيس ميقاتي يعوّل على الزيارة الفرنسية، كفاتحة تحصينية لحكومته، وخطوة اولى تُفتح أمام كل الأبواب الموصدة في وجه لبنان، سواء الأبواب الشقيقة او الصديقة، وهو ما أكّد عليه رئيس الحكومة لناحية السعي الى نسج أفضل العلاقات مع المجتمعين العربي والدولي، فإنّ باريس، وعلى ما تقول مصادر ديبلوماسية فرنسية، تعوّل على نجاح الحكومة اللبنانية الجديدة، ولذلك قرّرت إدارة الرئيس ماكرون أن تلعب باريس دور المشارك العملي في وضع الترجمة التطبيقية لما تبقّى من مندرجات المبادرة الفرنسية، وذلك عبر المواكبة المباشرة للحكومة اللبنانيّة، وبزخم أكبر من ذي قبل، يساعد حكومة ميقاتي في سلوك خريطة الطريق التي حدّدتها المبادرة، وإنجاز خطوات اصلاحية ملموسة وضمن مهلة لا تتجاوز بضعة اسابيع.
إحياء فرصة
والأهم في ما تعكسه المصادر الديبلوماسية من باريس، هو ارتياح الإدارة الفرنسية الملحوظ للتطور البالغ الإيجابية بتشكيل حكومة في لبنان بعد أشهر طويلة من التعطيل السياسي لها. وكذلك الارتياح من إحياء فرصة الإنقاذ للبنان، التي ترى باريس انّ نجاحها متوقف على ما تبديه القوى السياسية اللبنانية على اختلافها، من تعاون جدّي مع الحكومة، يسهّل عليها إتمام مهمّتها، التي تعتريها صعوبات بالنظر الى تراكم اسباب ونتائج الازمة على كل المستويات، وذلك بالشكل الذي يراعي متطلبات وتطلعات الشعب اللبناني، إلى اصلاحات تزيل آثار السياسات السابقة التي كانت سبباً لتفاقم الأزمة وتفشي الفساد الاداري والسياسي في لبنان.
انتظار النتائج
واذا كان بعض المتحمّسين قد قاربوا المشهد الفرنسي من خلال لقاء ماكرون وميقاتي، بتسويق مقولة انّ زيارة ميقاتي الى باريس ستؤسس بالتأكيد لعهد جديد من العلاقات الفرنسية- اللبنانية أكثر عمقاً وقرباً، وانّ ما بعدها لن يكون بالتأكيد كما قبلها، وخصوصاً انّها تشكّل المفتاح لسائر الابواب الدولية في وجه لبنان، الّا انّ مصادر سياسية مسؤولة تتجنّب الإفراط في التفاؤل، وهي وإن كانت قد استخلصت من شكل الزيارة جرعة إنعاش فرنسية للزمن الحكومي الجديد، فإنّها في الوقت نفسه تؤثر التريّث لما سينتج منها عملياً من خطوات على الارض، والى أن تظهر تلك النتائج، فإنّ الواقعية توجب الإنتظار، وعدم الاستعجال في اطلاق توقّعات قد لا تكون في محلّها.
وتعتبر المصادر، انّ «من الطبيعي ان ينظر اللبنانيون إلى الحدث اللبناني- الفرنسي في باريس على أنّه نافذة امل، فاللبنانيون معلّقون بقشة ويريدون ان يروا سريعاً نتائج ملموسة تخفف عنهم نار الأزمة التي كوتهم». وتقول: «لا شك انّ فرنسا من خلال مبادرة الرئيس ماكرون الى استضافة الرئيس ميقاتي، تعكس صدق توجّهها لمدّ يد العون للبنان، وهذا أمر لا خلاف عليه، إلّا أنّ الأساس هنا، يبقى في أن يُرفد المسعى الفرنسي تجاه لبنان بمؤازرة دوليّة جديّة، فهل ستتوفّر هذه المؤازرة، أم أنّ تلك المؤازرة ستتأثر بملفات الإشتباك على أكثر من ساحة دوليّة، يتمدّد معها هذا الاشتباك الى ساحة لبنان، تؤرجح هذا البلد في صراع أجندات خارجية لا يحصد منه سوى الجمود والمراوحة السلبية في الأزمة؟».
لا حلول سحرية!
الى ذلك، وحول المسعى الفرنسي يقول مرجع سياسي مسؤول لـ»الجمهورية»: «كلّ جهد يصبّ في خدمة لبنان مرحّب به، لا بل نتمناه ونتوسله كعامل مساعد في خلاص لبنان مما يتخبّط فيه، بالتأكيد نحن نتمنى ان تتمخّض عن اللقاء بين ماكرون ورئيس الحكومة ايجابيات، ولكن هل ستظهر تلك الإيجابيات، فلست املك ما يؤكّدها او ينفيها، ولا أنصح بالحديث عن سلبيات قد لا تحصل ولا بالحديث عن ايجابيات قد لا تحصل أيضاً. لا شك انّ اللقاء بين ماكرون وميقاتي حدث مهمّ جداً، لكنّني لست من المؤمنين بوجود حلول سحرية ولا أتوقّع معجزات خارجية».
الّا انّ المرجع نفسه يؤكّد أن لا ايجابيات خارجية تجاه لبنان بالمجان، والمجتمع الدولي اكّد انّ بلورتها هي مسؤولية اللبنانيين، ولذلك فإنّ ما ينبغي التركيز عليه هو محاولة تحقيق «المعجزات الداخلية»، وتلك مهمّة الحكومة عبر مبادرتها الى خطوات إنقاذية جدّية ونوعية، فمن شأن نجاحها فيها أن يمكّنها من استجرار الايجابيات الخارجية وفتح كل الابواب لتدفق المساعدات الدولية للبنان. يعني ذلك، انّ ايجابيات الخارج مرهونة بإيجابيات واصلاحات سريعة تسبقها من الداخل. وهذا بالتأكيد ما يجب ان يحصل، ولكن هل سنتمكن من بلورة تلك الايجابيات مع اقتراب البلد من استحقاق الانتخابات النيابية. أنا أتمنّى ذلك، لكنّ ما أخشاه على باب الانتخابات هو أن تتحوّل كل الساحات الداخلية الى مناكفات ومزايدات شعبوية تضيّع فرصة الأمل بانفراجات واصلاحات؟».
لقاء باريس
وكان الرئيس ميقاتي قد وصل الى قصر الاليزيه قرابة الثانية والنصف بعد ظهر امس، حيث استقبله الرئيس ماكرون عند المدخل وتصافحا أمام عدسات الكاميرات والتقطت لهما الصور التذكارية. بعدها أجريا محادثات استُكملت الى غداء عمل.
وفي ختام المحادثات، عقد ماكرون وميقاتي مؤتمراً صحافياً مشتركاً، تمنّى فيه الرئيس الفرنسي النجاح لرئيس الحكومة، وقال: «أؤكّد للشعب اللبناني دعم فرنسا للبنان خلال هذه المرحلة الصعبة التي يمرّ فيها. لقد تبادلنا مع الرئيس ميقاتي أحاديث صريحة للغاية والنظرة إلى المستقبل».
واشار الى انّ باريس «قدّمت الدعم وستتابعه وسنستمر بتجنيد المجتمع الدولي للاستجابة لكل الطلبات والاحتياجات المُلحّة»، وقال: «نعرف أنّ لبنان يستحقّ أكثر من ذلك، ولذلك فإنّ مسؤوليتكم كبيرة جداً وتاريخية. وأعرف أنكم تعلمون ذلك وسنساعدكم لتنجحوا». أضاف: «اليوم، من خلال حضرتكم والوزراء الذين معكم، هناك فرصة للمضي قدماً على طريق الاصلاحات، وهذا التعهد اتخذتموه أمام الشعب اللبناني وأمامي اليوم، وعلى هذا الأساس نتمنى ونريد أن نساعدكم في النّجاح».
واشار الى انّ «من الملحّ اتخاذ الاجراءات والخطوات الأولى المتمثلة بالإصلاحات الضرورية، لكي يتمكن لبنان من استعادة الثقة بنفسه، وأيضاً تأكيد ضمان دعم يومي للمواطنين. المجتمع الدولي لن يتمكن من مساعدة لبنان قبل إطلاق الإصلاحات على الأقل، وأنا أفكر بالاصلاحات في قطاع الطاقة ومكافحة الفساد واصلاحات الادارة، وجميعها موجودة في ذهنكم وقد بحثناها معاً. وبالتأكيد أولويتكم ستكون حول موضوع البنى التحتية والطاقة والتغذية ودعم الشعب اللبناني والاستجابة الى الاحتياجات قصيرة الأمد».
اضاف: «بالتأكيد على لبنان أن يُجري المفاوضات الضرورية مع صندوق النقد الدولي، وهذه المباحثات يجب أن تنطلق سريعاً. كذلك، يجب أيضاً التفكير في مكافحة الفساد وأيضاً إضفاء شفافية أكثر للحوكمة لكي تصل المساعدة الدولية مباشرة إلى المواطنين والى نتائج حسية». وتابع: «لقد تعهّدتم أيضاً الالتزام وفق الجدول الموضوع بإجراء الانتخابات النيابية المقبلة في العام 2022، ونحن سنبقى واعين للغاية خلال هذه العملية إلى جانب شركائنا الأوروبيين».
واشار الى انّه تمّ التطرق إلى التحقيقات بانفجار 4 آب، وقال انّ «فرنسا ستستمر في مساندة العمل القضائي، لأنّ الشعب اللبناني يستحق الحقيقة وله الحق في الوصول إلى أجوبة عمّا حصل». وقال: «الطريق ستكون صعبة. وندرك سوياً صعوبة الاصلاحات. وكما قلتم الآن، فإنّ هذه الطريق ليست مستحيلة، ونحن سنفعل ما بوسعنا لكي يقف المجتمع الدولي إلى جانبكم في هذه الطريق، طريق الطموح والإصرار» .
وختم: «قلت ذلك في بيروت وأكرّرها هنا اليوم إلى جانبكم: لن أترك لبنان ولن أخذل لبنان.. وفرنسا لم تترك ولم تخذل لبنان، ولكن الطريق طويل وصعب والمهمة صعبة.. وسنكون هنا إلى جانبكم والى جانب الشعب اللبناني واحتياجاته وطموحاته وكل من يدافع عن حياته اليومية ومستقبله، وأريد أن يعرف لبنان أنّه يستطيع الاعتماد على فرنسا».
ميقاتي
وفي كلمته قال الرئيس ميقاتي: «خلال لقائنا أكّدت للرئيس ماكرون عزمي على تنفيذ الإصلاحات الضرورية والاساسية في اسرع وقت، بالتعاون مع حكومتي وبدعم من الرئيس ميشال عون والبرلمان، لاستعادة الثقة وبث نفحة امل جديدة وتخفيف معاناة الشعب اللبناني. ستكون هذه الإجراءات حاسمة في إنعاش الاقتصاد، في متابعة المفاوضات الواعدة مع صندوق النقد الدولي والبدء بإنهاء الأزمة. وانني واثق أنّه يمكننا الاعتماد على دعم فرنسا في هذه المفاوضات».
وتابع: «كذلك اكّدت للرئيس ماكرون تصميم الحكومة على إجراء الانتخابات النيابية في الربيع المقبل، والتي ستسمح بتجديد الحياة السياسية التي يتوق إليها الشعب اللبناني الذي يعاني على الصعد كافة». وتوجّه الى ماكرون قائلاً: «كل ما تقومون به هو جزء من استمرارية العمل بهذا الوعد. وأنا على يقين أنك لن تسمح، من صميم قلبك، بأن يتعرّض لبنان للأذى، بل ستكون الى جانبه لاستعادة نموه وازدهاره».
البنك الدولي
الى ذلك، اعلن مدير دائرة المشرق في البنك الدولي ساروج كومار جاه، بعد لقائه وزير المالية يوسف الخليل، بأنّ البنك الدولي على استعداد لمساعدة الحكومة في مواجهة التحدّيات، والمضي قدماً في الإصلاحات والمساعدة في زيادة توليد الطاقة في البلاد، والعمل أيضاً مع الدول الشريكة لجلب الغاز والكهرباء لحل المشكلة.
وقال: «نود أن نكون شركاء في دعم هذه الجهود نظراً لأهمية هذا القطاع. كما بحثنا في ضرورة الإسراع في تنفيذ مشروع شبكة الأمان الاجتماعي الذي سيساعد أكثر من 200 ألف أسرة في لبنان وهو أولوية للحكومة، وبالنسبة لنا أيضاً، وقد تأخّر تنفيذه. لذا طلبنا من وزير المالية المساعدة في دفع عملية تنفيذ المشروع. أخيراً، تحدثنا عن ضرورة إعادة الأطفال اللبنانيين إلى المدرسة والتعلم وهو أمر مهم للغاية. ويود البنك الدولي أن يكون شريكاً في هذا الجهد نظراً لأهميته».
عون
من جهة ثانية، أشار رئيس الجمهورية ميشال عون، في كلمته عبر الفيديو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى أنّه «مع تأليف الحكومة اللبنانية وفق الآلية الدستورية بعد أزمة سياسية طالت على مدى سنة ونيف، دخل لبنان مرحلة جديدة نسعى لتكون خطوة واعدة على طريق النهوض؛ والحكومة العتيدة تنتظرها لا شك تحدّيات كبرى داخلية ودولية لتنال ثقة الشعب وثقة المجتمع الدولي بعد أن نالت ثقة البرلمان اللبناني».
وقال: «نعوّل على المجتمع الدولي لتمويل مشاريع حيوية في القطاعين العام والخاص من أجل إعادة إنعاش الدورة الاقتصادية وخلق فرص عمل، ونعوّل عليه أيضاً في مساعدتنا على استعادة الأموال المهرّبة والمتأتية من جرائم فساد».
واعلن انّ لبنان يدين أيّ محاولة للاعتداء على حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة التي يتمسك بحقه في الثروة النفطية والغازية في جوفها، وطالب بـ «استئناف المفاوضات غير المباشرة من أجل ترسيم الحدود المائية الجنوبية».
وحول جريمة المرفأ قال عون: «القضاء اللبناني يحقّق في مسبّبات انفجار المرفأ وظروفه، وفي المسؤوليات الإدارية، ولديه العديد من المدّعى عليهم والموقوفين. ويبقى أن يظهر التحقيق، وهو لا يزال سرّياً، من أين أتت المواد المتفجرة، ولماذا دخلت الى مرفئنا، ومن هي الجهة الحقيقية التي تقف وراءها».
وتساءل: «هل التقطت الأقمار الاصطناعية شيئاً لحظة تفجير انفجار مرفأ بيروت؟ نحن نكرّر طلبنا من الدول التي تملك معلومات وبيانات تساعد التحقيق أن تمدّه بها عند الاقتضاء».
الراعي
وكان عون قد استقبل في القصر الجمهوري البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة الراعي، الذي امل «ان ينطلق لبنان الى الامام من جديد في ظل وجود حكومة أعضاؤها ممتازون ومعروفون».
وعن انتقاد ما جاء في عظته عن صهاريج النفط التي وصلت الى لبنان، قال: «اننا معتادون على التسامح والغفران، الّا انّ ذلك لا يغيّر من قناعاتي، لقد تحدثت عن السيادة اللبنانية وقلت انّ ذلك غير مسموح، لأنّ اذ ذاك لا تعود هناك من حدود بين لبنان ودولة أخرى وهي سوريا، ومن غير المسموح ان تدخل صهاريج مازوت تحت سلطة امنية للجيش السوري و»حزب الله». لقد أسميت ذلك انتقاصاً للسيادة وللكرامة اللبنانية، ولا يعود هناك اعتبار للبنان».