أين كنّا.. أين أصبحنا؟.. بهذه الكلمات يُقارب الرئيس نبيه بري لـ»الجمهورية» المشهد الداخلي بعد تشكيل الحكومة: «كنّا دولة على حافّة الّجحيم، تتآكلها أزمة خانقة في كلّ مفاصلها، وقَرّبتها من لحظة سقوط الهيكل بالكامل، ومن أن تجعلها دولة غير قابلة للحياة».
لقد كان تشكيل الحكومة محطة مفصلية بين زمنين، زمن انقطع فيه النّفس بالكامل، تحكّم فيه شبح الانهيار، وسيناريوهات خبيثة عبثت بمصير اللبنانيين، وزمن قدّم مع تشكيل الحكومة جرعة أوكسيجين لعلها تنعشه ليتمكّن من اعادة التقاط أنفاسه وإنقاذ ما يمكن انقاذه والنهوض مجدداً.
«حيّ على خير العمل»، قالها الرئيس بري فور تشكيل الحكومة، ووضعها كعنوان لخارطة الطريق الذي يفترض ان تسلكه هذه الحكومة، لأنّه مُدرك أنّ الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وانّ لبنان بات معدوم القدرة على تضييع أي لحظة مع بلوغ أزمته أبواب الجحيم. وبالتالي، لا خيار امام الحكومة سوى العمل سريعا وبلا أي إبطاء، باعتبارها تمثل الفرصة الاخيرة للإنقاذ واخراج لبنان من عفن الازمة. وتلك الفرصة يفترض أن تحظى بإجماع وطني حولها وعليها خارج أيّ حسابات سياسية و/او حزبية.
يثق الرئيس بري بحماسة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي للعمل والإنجاز السريع، ويُثني على اصراره على ان يتصدّى لمهمّته الصعبة. ويعتبر ان باب الإنجازات السريعة ليس مقفلا، بل هو مفتوح على مصراعية وليس ما يبرّر التأخر في ذلك تحت أي سبب او عنوان.
يقول بري: «ان ميقاتي متحمس، ويجب الّا نغفل أنّ للرجل مروحة اتصالات خارجيّة قويّة ومهمّة يمكن استثمارها، والبناء عليها، لما يحقّق مصلحة لبنان. ونأمل ان يتحقّق خير من زيارته إلى باريس
ومصلحة للبنان، إنما لا أريد أن استبق الأمور، بل فلننتظر إن كان الفول سيصير في المكيول».
لا يقول بري انه متفائل او متشائم، على رغم ان المناخ العام يميل الى التفاؤل اكثر، فالمهم في رأيه «ان يرى الناس نتائج سريعة على الارض، والحكومة وعدت بذلك، وليس امامها خيار سوى أن تنجح في ذلك».
الانقاذ الشامل هو المطلوب، ووفق برنامج عمل يكبح الازمة ومتفرّعاتها، ويعيد بناء ما تهدّم، بإصلاحات ضرورية على المستويات كافة بدءا من الكهرباء الى المالية العامة ومكافحة الهدر والفساد واستعادة الأموال المنهوبة والمهربة، وما إلى ذلك من العناصر المفاقمة لأزمة اللبنانيين.
الا ان للضرورة احكامها، فالإنقاذ الشامل لا يتم بكبسة زر، ولا بفترة زمنية قصيرة، بل يتطلب وقتا طويلا، الا انّ الحكومة المطلوب منها انجازات سريعة، باتت محكومة لعامل الوقت الضيّق امامها، لاصطدامها بالمرحلة التحضيرية للانتخابات النيابية.
عامل الوقت هذا، ماثل امام الرئيس بري، ويقول: لنكن واقعيين، الأزمة متشعّبة وكل تفصيل مرتبط فيها هو اولوية بحدّ ذاته تتوجّب مقاربته. ولكن، ولأن الوقت صار ضاغطاً، فأنا أرى أنّ امام الحكومة ثلاثة أشهر فقط، لتقدّم خلالها إنجازات، يعني إلى آخر السنة، لأن الفترة التي ستلي ذلك، سيدخل لبنان فيها مرحلة التحضير للانتخابات النيابية التي صارت على الأبواب، وكل الأطراف والمكونات السياسية وكذلك الحكومة ومجلس النواب ستنهمِك في هذه الإنتخابات ولن يكون في مقدور احد ان يفعل شيئاً، أو يقوم بأيّ عمل لأنّ البلد سيكون خاضعا بكل حواسه السياسية والشعبية لمناخ الانتخابات.
ومن هنا، يقول بري، فإنني أرى ان تعتمد الحكومة برنامجا عاجلا للاشهر الثلاثة المقبلة، والتي أسمّيها أشهر الإنجاز، لا يوسّع البيكار، بل تتناول فيه الحكومة مجموعة الملفات الاساسية والحيوية والتي تستطيع من خلالها ان تعطي اشارة اطمئنان للبنانيين.
ويورد بري في هذا السياق مجموعة ملفّات يرى ان تستعجل الحكومة في مقاربتها والبت بها خلال فترة الثلاثة أشهر التي حدّدها، وهي:
- اولا، موضوع الكهرباء، بحيث ان تبادر الحكومة الى وضع هذا القطاع كبند اوّل في جدول عملها، بحيث تسلك الطريق الذي تضع هذا القطاع على سكة الحلّ والمعالجة الذرية، والذي كان واجباً سلوكه منذ سنوات طويلة، اي المبادرة السريعة نحو التحضير الجدي لبناء معامل كهرباء جديدة. وتطمئن اللبنانيين فعلا بأنّه سيصبح لديهم كهرباء ولو بعد فترة. وانا اقترح للتعجيل في هذا الامر أن يستخدم مبلغ المليار و100 مليون دولار التي تلقاها لبنان مؤخرا في سبيل بناء معامل الكهرباء، علما ان الشركة الالمانية سيمنز سبق لها أن قدمت عرضا لبناء معملين للكهرباء بكلفة 700 مليون دولار...
وبالتوازي مع هذا التحضير، تبادر الحكومة إلى العمل الدؤوب والفاعل لزيادة التغذية والتخفيف من ساعات التقنين ما أمكَن، والشروع فورا في حسم البند الإصلاحي المنتظر والمتمثل بتعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء (وهو أحد شروط سيدر)، وكذلك تعيين مجلس ادارة جديد لمؤسسة كهرباء لبنان».
- ثانياً، أن تُسارع الحكومة إلى العمل على تحقيق الاستقرار النقدي وضبط سعر الدولار ومنع تفلته والتلاعب فيه ووضع حد للسوق السوداء.
- ثالثا، مبادرة الحكومة سريعاً إلى انهاء المشهد المأساوي الذي يتجلى في وقف طوابير إذلال المواطنين أمام محطات المحروقات، وتوفير مادتي البنزين والمازوت.
- رابعا، مبادرة الحكومة بعد ذلك الى تصحيح الأجور، بالشكل الذي يريح الموظفين ويعزّز القدرة الشرائية لرواتبهم التي تآكلت، وفي الوقت نفسه لا يرهق الخزينة.
ويؤكّد بري ان تطبيق هذه البنود الأربعة من شأنه أن يحلّ جوانب اساسية من الأزمة، ويضعها فعلا على سكة الإنفراج، ويشدد في الوقت نفسه على جهوزية المجلس النيابي لدعم الحكومة في كل مجال. وقال: لقد قلت لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة خلال لقائنا الثلاثي في بعبدا يوم صدور مراسيم تشكيل الحكومة ان المجلس النيابي حاضر لكي يكون مستنفرا 24 على 24 لمساعدة الحكومة ومواكبة
عملها بكل ما تطلبه لتسهيل مهمّتها، وتمكينها من النجاح وتحقيق الانجازات المطلوبة منها. ولكن هناك من يطالب بإقرار قوانين، وهذا ما يجب ان يحصل... ولكن ما يجب ان يكون معلوما هو ان العمل الذي يقوم به مجلس النواب في إقرار القوانين، يجب أن تكون له تتمته من خلال تطبيق القوانين التي يقرها بخذافيرها من دون اي ابطاء، وليس ان يقر قوانين ثم تُعطَّل وتوضع في الادراج. هناك مجموعة كبيرة من القوانين معطلة، فلماذا تُعطّل، فلتوضع موضع التنفيذ فوراً، فكلها قوانين مرتبطة بعملية الاصلاح ومكافحة الفساد. وانا اكيد أنه لو وضعت موضع التنفيذ ستوفّر على الحكومة الكثير من الدعم في مهامها.
يعبّر بري في سياق متصل هنا، عن استياء واضح مما شاب قانون الشراء، ويقول: لقد اقرينا قانون الشراء الذي يعتبر من أهمّ القوانين، لكن المؤسف هو الطعن فيه، والذي تناول مادة اساسية فيه ترتبط بواحد انظف الموظفين (مدير المناقصات جان العليّة).
واما في الجانب المتعلق بالتحقيق الذي يجريه المحقق العدلي طارق البيطار، وما يواكبه من ادعاءات وتوقيفات والتباسات، فيقول بري: هذا المسار المعتمد لا يؤدي إلى تحقيق العدالة.
ويضيف: موقفي لن يتبدل ولن يتغير بأنني لن اسمح بتجاوز مجلس النواب والمسّ بصلاحياته، وانا اقول انني لن اتخلى عن صلاحيات المجلس النيابي مهما كلف الامر وتحت اي ظرف كان هذا ما يجب ان يكون معلوما من الجميع.
ثمة فقرة اوردها الرئيس بري في خطاب 31 آب في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، ما زالت تنطبق على اداء المحقق العدلي، وفيها «لا حصانة فوق رأس أي متورط والحصانة فقط للقضاء والشهداء والعدالة وتعاوناً وسنتعاون مع القضاء إلى أقصى الحدود ولم نقل يوما أننا ضد رفع الحصانات وجل ما طالبنا به هو تطبيق القانون والدستور، لكن للأسف هناك من تعوّد في لبنان الاستثمار على القضايا المحقة لأهداف انتخابية رخيصة وربما تنفيذا لأجندات مشبوهة»... «المسار للوصول إلى الحقيقة واضح هو معرفة من أدخَل السفينة ولمن تعود شحنة النيترات ومن سمح بابقائها كل هذه المدة»... «المطلوب من المحقق العدالي طارق البيطار تطبيق القوانين بدءا من الدستور... فاسمع صوت العدالة، لا لمن يهمس إليك، من دون استنسابية وإن لم تقم بذلك فويلٌ لقاضي الأرض من قاضي السماء».
وفي موضوع ترسيم الحدود، يؤكّد بري «أنّني أديتُ دوري وقسطي وقمت بواجبي وحددت الإطار، وابلغت رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بأن يقررا في شأن هذا الأمر ما يريانه مناسباً».
وماذا عن التنقيب حول الغاز والنفط في البلوك رقم 9 ؟ يستغرب بري الإصرار على التأجيل المريب لهذا التنقيب الى العام الى 2022.