رواية الفرضية في «أحجية ادمون عمران المالح»
رواية الفرضية في «أحجية ادمون عمران المالح»
كه يلان محمد
Saturday, 19-Jun-2021 07:00

تتحرك الرواية في منطقة الشك والافتراضات النقيضة للسكونية وهي تعارضُ الخطابات الداعية إلى التمثّل للمسلمات والوصايا والمدونات التي قد تستمدُ مسوغاتها من المثابات المتعالية، فيما تكمنُ قيمة فن الرواية في مُحايثته للواقع والبشري بكل ما يعني ذلك من استحالة التكامل وصعوبة التكهن بالمآلات. كما أنّ اختراق الشكل والصياغات المعهودة هو من خصائص المبدع الروائي إذ يصبو كل كاتب إلى بناء هوية عمله من خلال تنظيم الخطاب أو المبنى الروائي، وبالطبع انّ ذلك يخدم المحتوى ويزيد من حظوظ مستويات التلقّي والتفاعل مع النص.

ومن المعلوم أنّ ما يلفتُ الانتباه أكثر في الرواية ما بعد الحداثية هو المرونة والاحتشاد والهجانة في تشكيلة النص، بحيثُ لن يكونَ السؤال عن حدود الأجناسية قائماً في الاشتغالات النقدية بقدر ما يهمُ إدراك التجاورية باعتبارها مكوناً لفضاء المُعطى الأدبي. ما يعني أنك تقعُ في روايات ما بعد حداثية على مغامرة التجريب تَتراصّ في مسلة العمل الإبداعي مستويات متعددة من الصياغة التعبيرية، إذ يتشابكُ الخبر مع السرد والوصف والمقال، هذا ناهيك عن الجمع بين التضمينات التاريخية وما يناقضها في سياق واحد. ولعلَّ ميلان كونديرا هو أبرز مَن عَمِل على هذا المنحى في رواياته، ولا سيما في «الكائن الذي لا تحتمل خفته»، حيث يحتشدُ النص بأشكال تعبيرية مختلفة هذا إضافة إلى تناصّه مع طيف من الأفكار الفلسفية والموروث الأسطوري.

 

وما نشرهُ الكاتب التونسي بعنوان «البيريتا يكسب دائماً» يندرجُ ضمن الروايات ما بعد الحداثية، إذ تغيبُ تقنية التقابل في آلية الكتابة لدى صاحب «عشيقات النذل» وترى شخصياته ضليعة في أدغال الإجرام والفحش، كما لا ينتظمُ تيار السردِ على حبكة واحدة بل يدور حول سلسلة من الحبكات المبثوثة في مساحة النص. وبدوره، برمَج الكاتبُ المغربي «محمد سعيد أحجيوج» محتويات عمله الروائي المعنون بـ«أحجية إدمون عَمران المالح» بنفس ما بعد حداثي، فتتزاحمُ المرويّات المتضادة على امتداد النص المسرود، وتنضَمُ إلى مداره قصص فرعية قد لا يصيب مفهومها التهلهلُ إذا تمَّ فصله من طينة الرواية.

 

نص رديف

 

مناقشة مشروع الكتابة الروائية داخل الرواية ركن أساسي في المنحى التجريبي والأعمال ما بعد الحداثية، ما يعني أنّ فحص الرواية من خلال الرواية هو ما يُعلنُ عنه ضمن مسلك الكتابة. وقد يرافقُ ظل نص من المفترض أن يتمّ إنجازه ما يكونُ معناه قيد التشكّل خلال عملية القراءة، وتترشحُ بعض الآراء النقدية بشأنِ أنواع الرواية وخصائصها تماماً كما تجد كل ذلك في رواية «أحجية إدمون عمران المالح». يستهلّ المؤلف عمله بجملة مثيرة للاستغراب ومضمرة نواة العمل بأكمله، ومن ثمَّ يعقبُ الراوي العبارة الافتتاحية «مرر رواية اليوم المقدس إلى القائمة القصيرة وستحصل فوراً على شيك بعشرين ألف فرنك» بسؤال عن إمكانية تأبير بياض من الصفحات بنفحات ذلك المقتبس؟ ما يعني أنّ هذا الملفوظ هو بمثابة وحدة أساسية تتخذُ في أثير إيحاءاته القصة شكلها وتتحركُ مداليلها. وما يؤكدُ زخم العبارة الافتتاحية هو تكرارها في سياق الحزمة السردية، بحيثُ أنّ ما يقعُ بين مطلع الرواية ولحظة تلفّظ الراوي بالجملة من جديد هو عبارة عن الوسائط، إذ يسردُ المتكلمُ ما يعانيه على المستوى الذهني والجسدي فهو يبدو أنّ ذاكرته موشومة بالفوضى، وبالتالي يصعبُ عليه تحديد المكان. ولا يسمع سوى صوت نواقيس ضخمة تترددُ بين جمجمته، ومن ثمّ يشكّ الراوي في حقيقة الحوار الذي كان قد دار بينه وبين فرانز غولدشتاين في مطعم باريسي، هذا عدا عن إضافة شخصية جديدة وإشارة إلى المكان تقعُ أيضاً على الإيماءة الزمنية في سياق عملية التذكر، فكان الراوي شاباً مفعماً بالحياة ويُخيّل إليك مما يقوله كأنَّه يحكي عن شخص آخر، ما يعني وجود فاصل زمني بين لحظة الحدث وفعل التذكّر. وما يلبثُ طويلاً حتى يعود السردُ إلى مداولة أمر الكتابة إذ يتمنى الراوي لو كان بإمكانه اختيار بداية لقصته على طريقة بطل «طبل الصفيح» حتى ينضمّ إلى تيار حداثي أو ما بعد حداثي. تنتقلُ آلة السرد بين رصد ما تجودُ به الذاكرة وهموم الكتابة، ويتدرّجُ الراوي في حيثيات لقائه بميسو فرانز غولدشتاين المحرّر في إحدى دور النشر. فالأخير يبدو على دراية بدور الدعاية والتسويق الإعلامي، وينتقي كلماته من ذلك المعجم.

 

الصفقة

 

يتحققُ النجاحُ للأعمال الروائية من خلال التوازن بين الخطاب والقصة، ويدركُ صاحب «كافكا في طنجة» شروط هذه المعادلة لذا تتصاعدُ حدة الحس الدرامي في تضاعيف عمله مع مضي السرد، فالصفقة التي يقدمها فرانز لعمران المالح تزيدُ من حدة التوتر في جسد النص. وعليه، فإنّ المطلوب من عمران هو تمرير رواية «اليوم المقدس» إلى القائمة القصيرة مقابل عشرين ألف فرنك وعقدٍ لنشر روايته الأولى. والحال هذه تتواردُ المعلومات عن شخصية عمران الذي يشيرُ إسمه إلى أصله المغربي، فعاشَ ردحاً من حياته في مكناس والدار البيضاء وتذوّق طعم الحب ومرارة حرمانه من الارتباط بجارته إيمان. يطفو على الذاكرة سيل من التفاصيل حول هجرة اليهود إلى إسرائيل، إذ يزدادُ عدد المهاجرين عقب وفاة محمد الخامس وتتباينُ الفرضيات بشأن غرق سفينة إيجوز المحمّلة بالعائدين إلى أرض الميعاد، كما يعترفُ ادمون بأنّه كان يزوّد المخابرات المصرية بمعلومات عن بني قومه. وكل ما يذكر في هذا الإطار ينتظمُ موقعه في رواية «عمران المالح» الذي كان ينشر المقالات باسم عيسى العبدي بحسب مشروع الرواية التي هي قيد الذاكرة.

 

ولا تتجاهلُ تلك الرواية الإشارة إلى مشاركة عمران في حرب 6 اكتوبر وإصابته من الرِجل، غير أنَّ هذا الخبر يناقضهُ ما يبوحُ به الراوي أنّ إصابته كانت جرّاء حادث سير تعمّده عن سبق إصرار، لأنَّه قد مَلّ من الإقامة في إسرائيل وهذا التعارض في حقيقة الخبر يوازي اعتراف فرانز بأنَّه قد تورّط في قتل عائلته، وما يقوله عن قضاء نحبهم في أوشفيتز ليس سوى تزييف للحقيقة. تتعاقب أحداث الرواية إلى أن يكونَ المتلقي أمام وقائع التصويت على العناوين المرشحة للجائزة الأدبية، هنا يدخلُ السرد الروائي في محور ميتا القصة، إذ ينصرفُ جلّ الحديث إلى تناول محتوى الروايات المُتنافسة على الجائزة. أكثر من ذلك، فإن ما يضاعفُ من أنفاس التجريب هو هاجس الراوي عن هويته هل هو شخصية روائية مسطّحة حبرها كاتب على ورق؟ لا تكتمل خصوصية هذا المنجز الإبداعي على كل ما ذكر آنفاً فحسب، بل انّ مرونته في تَقبّل القصص المتضمنة، مثل قصة دادة ميمونة ورغبة الراوي في محاكاة مارغريت أتوود لكتابة رواية بإيحاء من تلك الشخصية التي كانت رؤيتها في المنام بمنزلة رسالة لـ(عمران) تكسبُ النص مزيداً من الأبعاد التشويقية.

 

مغامرة التجريب

 

التجريب في كتابة الرواية مغامرة لا يمكن الاستخفاف بمتطلباتها، ويأتي في المقدمة تحديد مستويات توظيف الإشارات التي تذكّر المتلقي باحتمال تَوالد رواية أخرى في أحشاء الرواية التي يتابعُ محتوياتها، ما يعني أنّ السرد يَتشعّبُ وتتوالى المُفاجآت في سياق العناصر المكونة للفضاء الروائي، ويطوف ظلّ نص غائب في مفاصل العمل. نجح محمد سعيد أحجيوج في سبك رواية بمواصفات ما بعد حداثية، إذ تتشابكُ في سياقها الذكريات والمرويّات المضادة. وما ان يستأنس القارىء برواية حتى يصدمهُ نقيضها، كل ذلك يقعُ ضمن مساحة محدودة جداً قياساً بوفرة المعطيات التي تنبسط عليها، إذ ينفتحُ النص على عدة ثيمات إشكالية الهوية والحب والاختلاف الديني والاغتراب، إضافة إلى اندساس الجماعات المافوية في المحافل الأدبية والثقافية. هذه الرواية لا تنزلُ في صنف الأعمال التاريخية ولا الفنتازية وليست رواية الأطروحة، بل هي حصيلة للوعي بهذه الأنواع كلها، لذلك تتموضع على التخوم بين الواقع والحلم، التلفيق والحقيقة، الذكريات والهذيان.

theme::common.loader_icon