التعميم 158 غير مسبوق جاف وغير مطمئن
التعميم 158 غير مسبوق جاف وغير مطمئن
د. جو سرّوع
Wednesday, 16-Jun-2021 06:51

صدر عن حاكم مصرف لبنان بتاريخ 8/ 6/ 2021، تعميم أساسي رقمه 13335، يتضمّن إجراءات استثنائية لتسديد الودائع بالعملات الأجنبية. يحدّد القرار المستفيدين من التسديد التدريجي للودائع بأصحاب الحسابات المكوّنة قبل 31/ 10/ 2019 ، وموقوفة بتاريخ 31 / 3 / 2021 ، ويستثني الحسابات المحوّلة إلى العملات الأجنبية بعد 31 / 10 / 2019 ، وفي حال أراد صاحب الحساب الذي يحق له الاستفادة من هذا القرار، عليه أن يطلب من المصرف المعني أن يفتح حساباً خاصاً متفرعاً SPECIAL SUB ACCOUNT، يحوّل إليه مبلغاً يوازي 50 ألف دولار أميركي، وفقاً للمبالغ المتوافرة لديه بالدولار الأميركي أو بعملات أخرى. وعلى صاحب الحساب أن يرفع حصراً السرية المصرفية عن حسابه الخاص المتفرع وليس على الحسابات العائدة له كافة، وذلك فقط لمصلحة مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف.

يتمّ السحب من المبلغ المحوّل من الحساب الجاري المتفرّع مبلغ 800 دولار أميركي شهرياً، يُدفع منها 400 دولار نقداً BANK NOTE، وكذلك ما يوازي 400 دولار بالليرة اللبنانية على أساس السعر المحدّد على المنصّة الإلكترونية لعمليات الصرافة SAYRAFA ، يُدفع منها 50 في المئة نقداً و50 في المئة بواسطة البطاقات المصرفية، على ألّا يتجاوز مجموع ما يمكن سحبه من الحساب الخاص المتفرّع بالعملتين كما ذكرنا، سنوياً ما يساوي 9600 دولار أميركي. يتمّ تأمين السيولة لتلبية متطلبات هذا القرار مناصفة من سيولة المصرف المعني لدى البنوك المراسلة، ومن التوظيفات الإلزامية بالعملات الأجنبية العائدة للمصارف لدى مصرف لبنان، والتي يحرّرها الأخير لهذه الغاية.

 

يحق للمصارف تأمين السيولة المطلوبة بموجب هذا القرار، استعمال السيولة الخارجية المتوافرة لديها من ضمن نسبة الـ 3 في المئة المشار إليها في التعميم 154، على أن تتمّ إعادة تكوين هذه النسبة في مهلة أقصاها 31/ 12/ 2022 .

 

ويحظّر على المصارف أن تستعمل لتسديد المبالغ المتوجبة عليها بأحكام هذا القرار، الحسابات الجديدة FRESH ACCOUNTS، والأموال التي وافق أصحابها على إعادتها عملاً بأحكام التعميم الرقم 154.

 

تُطبّق شروط القرار لمدة سنة كاملة قابلة للتعديل أو التجديد، ويبقى سارياً إلى حين تحرير كل الأموال المحوّلة إلى الحساب المتفرّع.

 

سبقت هذا التعميم مجموعة من التعاميم، التي حاولت التعامل بشأن السياسة النقدية بشقيها المتمثلين بمعدلات الفائدة وسعر القطع. في ما يتعلق بمعدلات الفائدة حدّدها التعميم المختص في الأيام الأولى من الأزمة بـ 5 في المئة للدولار و8 في المئة لليرة، على أن تُسدّد الفائدة المستحقة على الحسابات بالعملات الأجنبية نصفها بعملة الحساب والنصف الآخر بالليرة. أما سعر الصرف الذي كان واحداً وثابتاً على 1500 ليرة للدولار، انفلت تباعاً من سوق صيرفة شرعية إلى سوق سوداء متفلّتة تنظيمياً ومنظّمة عملياً، تحوّلت في وقت قصير إلى السوق الأساسية التي تدير فعلاً السياسة النقدية. ولم تقوَ عليها حتى الساعة محاولات المصرف المركزي المؤتَمَن الأساسي والوحيد على السياسة النقدية، قبل المنصّة SAYRAFA 1 والمنصّة SAYRAFA 2 . وعلى رغم كمية العملة الأجنبية التي ضُخّت في السوق ولا تزال تحت عناوين نبيلة متعددة، كان مردودها على أحوال الناس المعيشية المأسوية أقل بكثير من التأثير الاستراتيجي الممكن لما صُرف من هذه العملة في أي شأن نقدي من ضمن أي خطة تعافٍ محتملة.

 

ويُطلّ علينا الآن التعميم الرقم 158، والذي، وللمرة الأولى في ظل التطمينات الى أنّ حقوق المودعين محفوظة ومؤمّنة، وأنّ كل ما «يُروى» خلافاً لذلك مجاف للحقيقة - وإن برأينا كان مقارباً للواقع - يُطرح عملياً موضوع الودائع. وهذه إيجابية بالمطلق بحدّ ذاتها وخصوصاً أنّها بالمبدأ تطمئن ما يقارب 800 ألف مودع من المستحقين منهم وفقاً للتعميم، ستصلهم ودائعهم في مدة أقصاها 5 سنوات. في حين أنّ الحسابات التي تفوق أرصدتها الـ50 ألف دولار، تطالها من التعميم مثلها مثل تلك التي هي دون الـ50 ألف دولار، مع العلم أنّه تُستثنى منها الحسابات المكونة بعد 31 / 10 / 2019 وتلك التي حوّلت من الليرة إلى العملات الأجنبية؟

 

وهنا نسأل، إن بقيت هذه الحسابات المستثناة في البلد وعانت من التقطير في السحوبات، والانتقاص من حقوقها بالـ HAIR CUT المقنّع، سواء من الفوائد التي أُعطيت لها عند التحويل إلى العملة الأجنبية والتي إن لم تكن صفراً فهي حوله، وكذلك من التداعيات العميقة لتردّي الخدمات المصرفية على مختلف أنواعها. وفُتحت وحوّلت إلى العملات الأجنبية ضمن القوانين والنظم المصرفية والمالية المرعية الإجراء. إنّ أصحاب الحقوق كل على قدر معرفته وقلة حيلته وارتدادات تدني مستوى الخدمات المصرفية وسبلها الانتقائية، حتّم عليهم ومن صميم يأسهم وتيئيسهم على غير هدى وغياب أي ضمانات جدّية وذات معنى، أن يحاولوا حماية جنى عمرهم وسبل عيشهم.

 

أما في ما يتعلق بأموال الفساد، والأموال التي حُوّلت إلى الخارج، التي طلب المصرف المركزي من المصارف بموجب التعميم، أن يحث أصحابها على إعادتها بنسبة 15 في المئة، وكذلك الطلب من أصحاب المصارف وإداراتها العليا إعادة 30 في المئة. نسأل، ماذا عاد من أموال الفساد؟ وماذا عاد من الأموال الأخرى التي خرجت؟

 

أما في ما يخصّ رفع السرية؟ لماذا على صاحب الحساب المستفيد أن يرفع حصراً السرية المصرفية عن الحساب الخاص المتفرع لصالح مصرف لبنان ولجنة الرقابة؟ يبدو أنّ من الممكن أن يكون لدواعٍ رقابية للتأكيد على الامتثال الكامل والجدّي بآليات تطبيق التعميم، وبما يكفل إيصال الحق إلى مستحقيه فقط. وعليه، نشير بايجاز وبرأينا، الى أن الآليات التي حدّدها التعميم في المادة الرابعة، تفيد بأنّ على المصارف تزويد مركزية الحسابات الخاصة المتفرعة المشار إليها في المادة 7 من التعميم، بأرصدة هذه الحسابات المفتوحة لديها وبالمبالغ المسحوبة خلال الشهر.

 

كما أنّ المادة 7 من التعميم تتعلق بإنشاء مركزية الحسابات المتفرعة لدى مديرية المصارف في مصرف لبنان، والتي يكون دورها محصوراً: بمتابعة تطبيق احكام هذا القرار، تزويد حاكم مصرف لبنان بتقارير شهرية تتضمن أرصدة الحسابات الخاصة المتفرعة، والمبالغ المسحوبة خلال شهر، التجاوزات في تطبيق القرار.

 

في حين أنّ المادة الثامنة تنصّ على أنّ عدم التقيّد يلزم البنك المعني بإعادة السيولة الخارجية التي استفاد منها من مصرف لبنان ويعرّضها للعقوبات المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف.

 

اما المادة 9، تلزم مفوضي المراقبة على اعمال المصارف المعنية التأكّد من صحة تنفيذ القرار وإبلاغ حاكم مصرف لبنان ورئيس لجنة الرقابة على المصارف بكل مخالفة لأحكامه.

 

وهنا نسأل، هل رفع السرية المصرفية في ظلّ الآليات التي حدّدها التعميم مع تنوعها وشموليتها، يأتي بقيمة مضافة لتركيز آليات التحقق والتدقيق التي ذكرناها سابقاً، وبالأخص أنّ إحدى هذه الآليات تلزم المصارف بتزويد مركزية الحسابات الخاصة المتفرعة بأرصدة هذه الحسابات المفتوحة لديها والمبالغ المسحوبة منها؟

 

وفي الإيجاب، هل هذه القيمة المضافة إن صحّت توازي المدلولات المحتملة للرفع الاستباقي لهذه السرية على الصعيدين التنظيمي والعملاني.

 

أما في ما يتعلق بالتمويل يحدّد التعميم التمويل مناصفة بين المصرف المركزي والمصارف، يحق للمصارف تأمين قسطها من السيولة الخارجية المتوافرة لديها ضمن نسبة الـ 3 في المئة المشار إليها في التعميم الرقم 154 تاريخ 27 / 8 / 2020 ، على أن تتمّ إعادة تكوين هذه النسبة في مهلة أقصاها 31 / 12 / 2022 ، في وقت تصرّح المصارف أن ناتج حساباتها عند المصارف المراسلة في الخارج سلبي بمبلغ يفوق المليار دولار. وكذلك في وقت لم يتمّ فيه إعلان مَن من المصارف تمكّن من الإيفاء بنسبة الـ 3 في المئة المطلوبة ومن لم يؤمّنها؟ وما هو مستوى السيولة المتوافرة عند كل مصرف على حدة؟ ومَن منها بإمكانه حالياً أن يفي بإجراءات التعميم الاستثنائية؟ وفي حال الإيجاب هل سيتمكن من إعادة تكوين هذه النسبة في مهلة اقصاها 31 / 12 / 2022 ؟ وما رشح في هذا السياق إلى الآن، لا يمكن توصيفه بالشفاف والواضح، والمستقبل رهن بإعادة هيكلة المصارف وتبيان اتساعها وعمقها وجدواها المالية والنقدية والاقتصادية. أما المصرف المركزي فسيؤمّن السيولة المنوطة به من التوظيفات الإلزامية بالعملات الأجنبية العائدة للمصارف لدى مصرف لبنان، وذلك من السيولة المتوافرة لمصرف لبنان في الخارج، والتي يحرّرها لهذه الغاية، والتي هي بالفعل من الاحتياط الإلزامي. المؤكّد أنّ ودائع المصارف منذ بدء الأزمة تناقصت باستمرار، إن بسبب السحوبات النقدية من الودائع والتحويل إلى الخارج، والسحوبات بالليرة الخ.... هذا التراجع من مجموع الودائع بالدولار قد أنتج مبلغاً مهماً، الذي من الممكن أن يكون حُرّر لتمويل الدعم المفتَقد في الداخل والمفقود إلى الخارج، أو قد تمّت المحافظة عليه كلياً أو جزئياً من قِبل المصرف المركزي، تحت بند التوظيفات الالزامية بالعملات الأجنبية العائدة للمصارف لدى مصرف لبنان؟. هذا التعميم سيدخل التاريخ المصرفي والمالي اللبناني، ليس لعدالته المطلقة في إحقاق الحق، ولا لإعجاز إبداعه في توفير الضمان المطمئن للمودعين، ولا لأريحتيه المهنية، بل لمقاربته الرقمية الجافة لهذه الحقوق، واعتماده على إجراءات استثنائية غير مسبوقة، وهدفها من جهة ممكن أن يكون نبيلاً عرضنا له سابقاً. ومن جهة، بناءً على توحيد قيمة التسديد التدريجي لودائع العملات الأجنبية، من الممكن أن تشكّل هذه الإجراءات الاستثنائية تصويباً على ودائع الناس التي هي فوق الـ50 ألف دولار وتعمّق الانتقاص المتمادي من حقوقهم، وتزيد من الكلفة على المودعين الذين لا حول ولا قوة لهم، في بلد متفلّت يفوق سعر الصرف فيه المئة في المئة، والتضخم يتصاعد من دون ضبط أو انضباط، إلى مستويات تسبق الانهيار بسعر الصرف بأشواط. وكل هذا وسط تنكّر الدولة لديْنها السيادي للداخل والخارج، وتماديها في لامبالاتها حيال انهيار البلد الحاصل والمتعمّد، من خلال عصيانهم أن يأتوا بحكومة للبلد وليس لهم. كل هذا وسط حيرة أهل البلد وذهول شركائه الاقتصاديين وأصدقائه التاريخيين في المنطقة والعالم.

 

ونخشى ما نخشاه أن يؤشر هذا التعميم وامتداده المبدأي الى 5 سنوات مع إمكانية تعديله وتجديده سنوياً، إلى العودة إلى اعتماد الحل الراديكالي في إطفاء الخسائر على حساب المودعين الذين يتجاوزون التعريف بصغار المودعين. ويدعم هذه الخشية كون اثنين من النسب التي يتشدّد فيهما صندوق النقد الدولي، هما نسبة الودائع إلى الدخل القومي، ونسبة الدين السيادي إلى الدخل القومي، وتتشارك فيهما قيمة الودائع، إذ أنّ الديْن السيادي بأكثريته الساحقة داخلي ومموّل من ودائع الناس، وبالتالي غني عن القول إنّ «مأزق» هاتين النسبتين عند الدولة وليس عند المودعين. وعلى كل من نادى والتزم بأنّ ودائع الناس خط أحمر، اي أن يعطي لهذا الشعار معنى حقيقياً مطمئناً وضامناً.

 

وعليه، من المفيد إن لم نقل من الضروري إعادة النظر في هذا التعميم، إلى حين تلازمه مع التحديد العادل للخسائر وتسريع التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وهذا أصبح ممكناً لانكشاف الحالة اللبنانية والاستكشاف الكافي للتبصّر في أمور ووسائط حلها على صعوبتها وعلى المديين الآني والمتوسط، وكذلك من الضروري تلازم ذلك مع إعادة هيكلة معقولة وذات معنى للقطاع المصرفي. معقولة من ناحية تحديد حجم القطاع المصرفي المادي والمالي، وذات معنى بتحديد موارد السيولة المطلوبة ومصير ودائع الناس، ومتى سيتمّ وصولهم إلى ودائعهم، وكيف وكم؟ وفي هذا المحتوى أرى أنّ ما صدر عن صندوق النقد الدولي أخيراً، قد صوّب على الـ «كابيتال كونترول» وعينه على التعميم 158.

theme::common.loader_icon