ستيفان زفايغ.. فرويد وتعرية الوعي
ستيفان زفايغ.. فرويد وتعرية الوعي
كه يلان محمد
Wednesday, 16-Jun-2021 06:40
إذا أردت تخيّل شخصية فرويد بناءً على ما أنجزهُ في مجال التحليل النفسي، ستراهُ في صورة عالم الآثار الذي شمّر ساعديه لإزالة الطبقات الظاهرة على سطح الأرض، متوغّلاً إلى ما يشهدُ على وجودِ حضارات قديمة وامتداداتها في المراحل التاريخية اللاحقة. كذلك، ما فعلهُ فرويد في دراسته لظواهر الفرد النفسية، فهو قام بتعرية الوعي واختراق المنطقة التي توارت وراء مفهوم العقل.
 

ساد الاعتقاد قبل صاحب «مستقبل الوهم»، أنَّ أنشطة الإنسان بأكملها هي نتاج الطاقات الواعية والأفكار الواضحة، فيما أعلن فرويد أنّ الأنشطة النفسية يديرها اللاوعي.

 

سحب البساط

 

تفوّق فرويد على علماء النفس الآخرين، وسحب البساط من تحت الوعي والعقل، ونحت مصطلحاً جديداً إسمه «العقل الباطن». وفتوحات فرويد على هذا الصعيد توازي أكبر الاكتشافات على مرّ التاريخ برأي كثير من الدارسين، وكان له وقع صدمة في وقتها تماماً مثل صدمة الوسط الإكليروسي بإعلان كوبرنيكوس، بأنّ الأرض ليست مركز الكون. إذاً، حقّق فرويد تحوّلاً في تفكير عصر كامل على حدّ تعبير مؤلف ستيفان زفايغ، ولم يعد النظر إلى الأمراض النفسية قيد الآليات والتقنيات التقليدية، إذ تقمّص فرويد دور مروّضي الطريدة ولم يعتمدْ على ما يقوله المريض لتشخيص الحالات فحسب، بل نفذ ببصيرته إلى ما يسكتُ عنه المريض، وهذا يعني أنّه إلى جانب صرامة رجل العلم كان فرويد فنّاناً في استنطاق زبائنه المرضى.

 

الطب الرومانطيقي

 

كسر الكاتب والروائي النمساوي ستيفان زفايغ القوالب التقليدية في فن السيرة الغيرية، ولا يغطّي في أعماله السيرية حياة الشخصيات النابغة والعوامل الفاعلة على تكوينهم الفكري وتطلعاتهم الإبداعية فحسب، بل يضعنا أمام تفاصيل البيئة الاجتماعية والفكرية التي ترخي بظلالها على طبيعة العصر والقيَم السائدة في الأوساط الاجتماعية والثقافية. هذا ناهيك عن رصده للدوافع المحرّكة في عملية التحوّل الفكري والعقائدي، وهذا ما نراه بوضوح في ما نشره عن المصلح الألماني «مارتن لوثر». كذلك، بالنسبة لكتابه السيري عن «إيرازموس» الذي كان شاهداً لبوادر المساعي الرامية لإجراء الإصلاحات في المنظومة الدينية. وعلى هذا المنوال يسردُ زفايغ حياة العالم النمساوي سيغموند فرويد في كتابه «سيمغوند فرويد العلاج بالروح».

 

في المقدّمة، يتناولُ المؤلفُ توسّلات الإنسان بالحلول الماورائية لمعالجة المرض، مشيراً إلى أنَّ الصحة هي حال الإنسان العادية، وبالتالي لا تحتاج إلى الفهم، فيما العذاب الناجم عن الأمراض يحدو به نحو السؤال عن سبب ما يعانيه، وهل هو عقاب لخطيئة اقترفها؟

 

طبعاً، تنشأُ نتيجة خيبات متتالية طبقةُ توسمَ منها الإنسان البدائي التوسط بينه وبين القوة الفاعلة في الكون، وبذلك تسود ثقافة الكهنة. وفي المراحل البشرية الأولى لم يكن الطبُّ منفصلاً عن اللاهوت، وكانت المحاولات الطبيّة تهدفُ إلى إرضاء القوى المجهولة بدلاً من البحث عن أسباب المرض ومحاربته قبل أن يفتكَ بالمريض. ولكن هذه الحالة تبدّلت مع تطوّر العلوم والنهوض المعرفي والانطلاق إلى مدار العقلانية، فإنفصل الطبُ عن الدين، وأصبح مجالاً مستقلّاً عن العبادات والشعائر الدينية. ويشهدُ القرن التاسع عشر طفرة في مجال الطب، عندما يتّخذُ العلاج مسلكاً مادياً وآلياً مع ظهور المجهر وآلة رسم القلب. وهذا يعني غياب الجانب الذاتي في النظام الطبّي، غير أنَّ كلّ ذلك لا يمنعُ نشوء ما يُسمّى بالطب الرومانطيقي. فإنَّ الطبيعة وفق أتباع هذا التيار هي أكثر دراية وحكمة في معالجة الإنسان على المستوى الداخلي، ويبدو أنَّ ذلك كان انحرافاً عن ممارسة الطب العملية، وتحوّل الإنسان إلى مجرّد موضوع في المختبر. وما ينقصُ هذا التطوّر في مجال تشخيص أعراض المرض الجسدي هو عدم الاهتمام بالجانب النفسي في التكوين البشري، وما يلبثُ طويلاً حتى يعلن عددٌ من الباحثين عن إمكانية تحقيق الشفاء بالاعتماد على الأساليب النفسية. ويشيرُ زفايغ في هذا الإطار إلى فالانتان زيليس، الذي أنشأ مدينة طبية كاملة وفّرت الشفاء بالإيحاء والكهرباء، الأمر الذي أكّد أنّ تركيبة شخصية الإنسان لا يمكن استنكاه سرائرها ومعرفة أمراضها من خلال معاينة آلية فحسب، إنّما ثمّة عُقد يتمُّ تفكيكها بما يكشفهُ المريضُ عن حالته، ويطلبُ المنهج النفسي من المريض أن يكون فاعلاً في عملية إستعادة عافيته الروحية.

 

المسكوت عنه

 

يضمُّ سجلّ فرويدُ إكتشافات متعدّدة، وفي رصيده سلسلةُ من الانجازات التي زادت من وعي الإنسان بنفسه، إذ لم يعد ما يراهُ المرءُ في المنام مجرّد أحلام، بل هو تعبيرُ عن الرغبات التي لم تتمُّ تلبيتها، لأنَّ «الأنا العليا» تريدُ حماية صورتها المعهودة.

 

فاجأ الطبيب الشاب في أوائل القرن العشرين زملائه في المهنة بالحديث عن اضطراب الغرائز وكبتها بعيداً من لهجة الواعظ، معلناً بهدوء أنّ عدداً كبيراً من أنواع العُصاب ربما ناتجةُ من الكبت الجنسي. وما قاله فرويد لم يكن منافياً للحقيقة برأي الحضور، لكن الكلام نزع القناع عن هذا الموضوع، فكان صدمةً للعقليات التقليدية.

 

يقارنُ زفايغ علم النفس قبل فرويد والمسلك الذي يتّخذه مع اكتشافات مؤلف «موسى والتوحيد»، فكان علم النفس قيد إكراهات مفهوم سيطرة العقل على الغريزة، فيما أكّد فرويد أنّ الغرائز لا تسمحُ بأن تكبتَ ومن العبث القول بأنّ ما يكبتُ ينمحي ويختفي إلى الأبد. كل ما في الأمر، أنَّ الغرائز تنصرف من الوعي إلى اللاوعي. ما تميّزَ به فرويد هو صراحته، وكانت بالنسبة إليه الأولوية للمبدأ قبل التقاليد، لذا قد صرّح بأنَّ كل تقنيات العلاج العصبي للظواهر النفسية المعتمدة سنة 1885 لا تجدي نفعاً ولا تشفي مريضاً، وهو شأنَ أي مكتشف عظيم قد حاربهُ الخصوم والتيارات المتزمّتة. فبرأي فرويد، الصراع القائم بين الوعي واللاوعي يعبّرُ عن نفسه من خلال الزلّات والأخطاء التي تبدو غير مقصودة. أضف إلى ذلك، فإنّ الأحلامَ تمثّلُ رموزاً لعالم اللاوعي. فبنظر الطبيب النمساوي، الحلم شأن كل اللغات البدائية لا يعبّر إلّا من خلال صور تحتاج إلى التفكيك.

 

ويوافق زفايغ ما قدّمه فرويد عن الأحلام قائلاً: «من يدرك بأنّ إرادة لا تتجسّد فحسب في حياته الواعية بل في أعماق أحلامه أيضاً، يتبيّن فعلاً مراحل الحياة الزمنية المعيشة التي نسمّيها شخصيتنا». تتراخى القيود في الحلم ويكون المرءُ نسخة من الإنسان البدائي المتخفّف من إرغامات الحضارة. ما يجدرُالإشارة هنا الى أنّ إهتمام فرويد بالمسألة الجنسية لم يكن بإرادته بقدر ما أنَّ الموضوع قد فرض نفسه أمام عالم النفس أثناء أبحاثه. إذاً، اللبيدو، هذه الرغبة الأصلية في اللذة تحرّك الطاقات لاكتشاف العالم. وما يكون غريباً بالنسبة لأي متابع أنّ فرويد كان ربّ أسرة من ستة أطفال، ومع ذلك حقق مكاسب علمية مهمّة، لدرجة لا مبالغة في القول إنّ هناك إنساناً جديداً يظهرُ بفضل إكتشافات فرويد، لم يكن التكريم والترقية والمظاهر الخارجية ضمن اهتماماته، وهو قد تصرف وفق عبارة ستاندال: «لتكون فيلسوفاً جيداً يجبُ أن تكون جافاً واضحاً خلواً من الأوهام». فعلاً كان فرويد واضحاً صارماً، وما يهمّه هو الإبانة عن الطريقة التي تقود الإنسان إلى معرفة ذاته.

theme::common.loader_icon