في روايته «أنا يوسف»، يقدّم الكاتب الأردني أيمن العتوم حكاية الغدر عبر التاريخ متمثلّة في النبيّ القدّيس يوسف، الذي كان ذنبه وسامته وفطنته وإيمانه اللامحدود ممّا جعل الشمس والقمرَ والكواكبَ له ساجدين، وقد علّل الكاتب ذلك في ما ورد في القرآن الكريم من آيات: «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِين».
يبدأ الكاتب قصّته باجتماع للذئاب، حيث ترأسّ فيها زعيمهم جمعتهم وتحدّث عن قدوم النبيّ وعن السهام الحارقة التي ستنفذ من غدر البشر وصعوبة التأقلم في محيطهم، ويعلن تنصيبه الذئب الأطحل الصغير زعيماً عليهم بعد أن خيّمت عليه ظلال الموت وأوشك على الاندثار عن وجه الأرض. كان يوسف يعيش مع عمّته بعد رحيل والدته قريباً من منزل والده النبيّ يعقوب وزوجته وأبنائهما، وقد عصبت رأسه الفضيلة والحكمة وتجلّت له الرؤيا وأنبأها لأبيه الذي كان شديد التعلّق به، عظيم الإيمان بنبوءته، ليتلوها بدوره على زوجته ليا، فيتحوّل السرّ إلى العلن بعد أن تناقلته الألسن ووصل لآذان أخوته، وبعد وفاة عمّته ينتقل يوسف ليعيش في منزل والده، فيشفق أشقاؤه أن يسقطوا في الهزيمة ويحرموا من عطف أبيهم فتأخذهم العداوة، وتنهش الغيرة في أفئدتهم بأظافرها الحادّة، ليتآمروا على قتله وذبحه.
البئر
بعد فترة من الزمن، طلب الإخوة مجتمعين ما عدا شقيقهم الأصغر بنيامين الذي كان صغيراً جداً وكان الأقرب إلى قلب يوسف، من أبيهم، إذن الخروج به للصيد والنزهة في الطبيعة، فانقبض قلبه ولم يأذن لهم إلّا بعد إلحاحٍ من يوسف، وما إن ابتعدوا به قليلاً حتى بدأ معظمهم بركله وضربه، وهمّ أحدهم بذبحه فاستنجد بأخيه روبيل الذي كان أخفّ عداوة منهم ناحيته، وقد استأمنه والده عليه، فاقترح عليهم أخيراً إزاء عنادهم أن يلقوا يوسف في الجبّ في بئر خاوية تسرحُ فيها الثعابين وتحوم حول فوهتها الذئاب حتى لا يلطّخوا أيديهم بدمائه كما ورد في سورة يوسف في القرآن الكريم: «قالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَٰعِلِين»، فوافقوه الرأي بعد تشاور وتفكير، ونفّذوا مخطّطهم من دون أيّ شعور بتأنيب الضمير أو حضورٍ لله في أرواحهم. وفي وصفهم يقول العتوم: «الأقربون طعنتهم أشد، إنهم يرمونك عن قرب، ويصوبون نحوك عن علم، يتدثرون بدثارك، ومن تحته يوجهون إليك سهامهم في الظلام». فقبع يوسف في البئر عدّة أيّام قبل أن تأتي قافلة ويقوم الذئب الأطحل الذي بدأت به الرواية بدلّهم على مكان البئر الذي ألقي فيه يوسف ليكون رحيماً به أكثر من أشقّائه، فينتشله صاحب القافلة ويدعى مالك من حالك الظلمات، ويهرع إليه الإخوة ليبيعوه له بدراهم قليلة ويتّخذه عبداً، متعلّلين بأنّه ليس أخاً لهم بل كان عبداً ضالّاً نال جزاءه بعد إتيانه إثماً عظيماً.
من فلسطين إلى مصر
وتبدأ بذلك رحلة النبيّ يوسف من فلسطين إلى مصر حيث يقوم مالك ببيعه لوزير الملك «العزيز» فتقع زوجة العزيز زليخة في غرامه وتحاول أن تراوده عن نفسه فتغريه لتغلق عليه سبعة أبواب وتصل به أخيراً إلى فراشها، فيأبى ويترفّع عن الوقوع في شرك الرذيلة فتركض وراءه لتنال وطرها منه ويفرّ منها فتقبض على جزءٍ من جسده وتشقّ له قميصه، ويفتح زوجها العزيز الباب بغتة لتتدبّر أمرها بكيدٍ ومكر وتدّعي بأنّ يوسف قد راودها عن نفسها، فينكر يوسف التهمة ويطلب أن يؤتى برضيع من القصر ليتفوّه بالحقيقة وتحدث المعجزة ويتكلّم الطفل ويقول بأنّ قميص يوسف إن كان قد شقّ من الصدر فهي صادقة وتلزمه العقوبة، أمّا وإن كان في ظهره فهذا يعني بأنّ زليخة هي من همّت به، وتظهر براءة يوسف للعلن، وتتناقل الألسن حكاية غرامها وخيبتها، فتدعو كبار نساء المدينة اللواتي تناقلن خبر سقوطها لزيارتها، وتنادي لهنّ يوسف، وما إن تقع أعينهنّ عليه، حتى تُلقى غشاوة على عقولهن وينجرفن في تيّار الهوى، ويقمن بتقطيع أياديهنّ من شدّة الإعجاب والوله. تقرّر زليخة أن تودع يوسف السجن حتّى تؤدّبه ويتراجع عن صدّه لها فينفّذ العزيز زوجها طلبها، وترسل معه إلى قصر الملك السّاقي والخبّاز، وتُحاك مؤامرة للتخلّص من حياة أخناتون الملك الجديد الذي كان يمقت كهنة المعبد الذين يستغلّون النساء لمضاجعتهنّ ويجمعون الأموال بالسّحر والشعوذة والإدّعاءات المفرطة والغيّ والكذب، وتشير أصابع الإتّهام إلى الساقي والخبّاز، ويعتقد الملك بأنّ الدسيسة قد دبّرت من قبل العزيز وزوجته زليخة، فيأمر بمصادرة قصرهما وأملاكهما وتجريدهما من الأموال والخدم، فتهيم زليخة في السوق شريدة ذليلة بعد عزٍّ سافر، ويلتجئ زوجها إلى الصحراء الواسعة التي تخفي أخباره وتمحي أثره ولا يتبقّى منه إلّا ذكرى.
تفسير الأحلام
يفيض نور يوسف على رفاقه في السّجن ويشتهر بتفسير الأحلام فيتلو الساقي عليه رؤاه في الحلم لينبئه بأنّه سيخرج عمّا قريب حرّاً طليقاً ويعود إلى خدمة الملك، أمّا الخبّاز فيفسّر له ما تخيّله بأنّه سيعدم في الساحة العامّة وستأكل الغربان من رأسه حيّاً لمدة أيّام حتى يموت وجعاً وكمداً وحسرة. تصل معجزات يوسف في تأويل الأحلام إلى مسامع الملك أخناتون فيأمر بإحضاره، ويروي له حلماً يراوده ويقضّ مضجعه عن سبع أبقار هزال يأكلن سبع أبقار سمان وعن سبع سنابل جافّة يأكلن سبع سنابل مخضوضرة، ليكون تفسير يوسف كما ورد في الآية القرآنية التّالية: «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ* قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ* وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ* يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ* قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}
فقد أوعَز يوسف للملك بأنّ سبع سنواتٍ مزدهرة ستعمّ مصر ويسدل الرخاء عليها جناحيه ثم تعقبها سبع سنين من الفاقة والجفاف، ولهذا عليه أن يدّخر ويجمع ما يُزرع في سنوات النعيم لسدّ الرمق منها في سنوات الجحيم.
النبوءة
هكذا تصدق نبوءة يوسف وتزدهر مصر رغم المجاعة التي تحيق بالبلدان من حولها، ويصبح المستشار والوزير الأوّل للملك، ويأتيه إخوته من فلسطين طلباً للمؤونة فيعرفهم ولا يعرفونه، ويستبقي منهم أخاه الصغير بنيامين ويرسل بطلب والده الذي ألمّ به العمى حرقة وكمداً على يوسف، فيلقي بقميصه على عينيه ليرجع بصيراً، ويعفو عن إخوته ولا تندثر سيرة يوسف بعد موته ولكنّ القوم يختلفون كما جرت الأسباب عندما يختفي النبيّ ليتسلّل الشر ويمحق بوطأته بذور الخير. رواية «أنا يوسف» اتّخذت طابعاً روائيّاً أدبيّاً ميتافيزيقيّاً، استخدم فيها الكاتب لغةً صوفيّة شفّافة، تسيلُ كالماء العذب في قرارة النفوس، فيصبح ما يدّعيه البعض من أساطير الأوّلين حقيقة ماثلة أمام بصر المتلقّي، يستشفّ منها الصبر والتقوى والإيمان وعظمة التصوّف.