لا حكومة في لبنان قبل نهاية العهد. هذا ما يمكن استخلاصه من مجريات الجلسة البرلمانية لمناقشة رسالة رئيس الجمهورية، والتي انتهت إلى إبقاء الوضع كما هو عليه، تحت عنوان «ضرورة المضي قدماً وفق الاصول الدستورية من قِبل رئيس الحكومة المكلّف، للوصول سريعاً الى تشكيل حكومة جديدة بالاتفاق مع رئيس الجمهورية».
هكذا لم تخرج الجلسة البرلمانية إلّا بما يقترب من التمنّي، وهو في الواقع أقصى ما يمكن فعله، في بلد بات كل شيء فيه يُدار وفق المصالح الفئوية والطموحات السياسية الهدّامة، حتى وإن كانت النتيجة هدم ما تبقّى، وإجهاض أية فرصة للإنقاذ.
في الواقع، لم يكن في إمكان مجلس النواب القيام بأكثر مما فعل. قارب الرئيس نبيه بري الرسالة الرئاسية وفق ما تقتضيه الأسس الدستورية، أو بالأحرى وفق ما تبقّى من تلك الأسس الدستورية، في عصر الانحطاط اللبناني، ودعا إلى عقد الجلسة البرلمانية، مانعاً تحوّلها إلى حلبة مصارعة طائفية ومذهبية، كما أرادها البعض، وقطع الطريق على أية مغامرات جديدة من قبيل الدعوات إلى تعديل دستوري يحدّد مهلة ملزمة لتشكيل الحكومة، أو إلى انتخابات مبكرة، في بلد يفترض أن تجرى فيه الانتخابات، نظرياً، بعد عام واحد فقط.
وبخلاف مساعي البعض لوضع الجلسة البرلمانية في إطار «هايد بارك»، تكثّف فيه كل السجال المدمّر الدائر في البلاد في كلمتي رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، فإنّ مجلس النواب نجح في الحفاظ على الحدّ الأدنى من الأصول الدستورية، في مواجهة مغامرات انقلابية على الدستور، انطوت عليها الرسالة الرئاسية في سعيها لنقل البلاد إلى نظام رئاسي مقنّع كبديل عن النظام البرلماني، وفق معايير اتفاق الطائف.
قد يبدو الأمر هنا تفصيلاً حين يتعلق الأمر ببلد يسلك مسار السقوط السريع في اتجاه نقطة الارتطام، لكن جوهر ما حدث يشي بأنّ ثمة عقلاء في لبنان ما زالوا قادرين على منع الانزلاق نحو فتن متنقلة، ومحاولة كسب الوقت إلى أقصى حدّ ممكن، في محاولة لحرف مسار السقوط، لامتصاص ما يمكن امتصاصه من صدمات، كما يفعل السائق الماهر حين تتآكل فرامل سيارته وهي تسير في منحدر خطير.
لكن السؤال يبقى حول هامش المناورة الذي لا يزال يمتلكه من تبقّى من عقلاء، لامتصاص الارتطام، وكذلك حول إمكان نجاحها، وخصوصاً انّ الأزمة السياسية مستمرة،ـ ومعها الازمة الاقتصادية - الاجتماعية، ولا يبدو أنّ ثمة مخرجاً لها يلوح في الأفق، فلا رئيس الجمهورية ، ولا الرئيس المكلّف. وبرغم كل المناشدات لهما، لم يقدّما حتى الآن ما يؤكّد انّهما مستعدان لتقديم ذرة تنازل.
يمكن استشراف ذلك في مضمون الرسالة الرئاسية التي جاءت كمحاولة لإسقاط الأهلية السياسية عن سعد الحريري، العاجز عن التشكيل. ويمكن استشراف ذلك أيضاً في مضمون الردّ الناري الذي قطع فيه جسور التواصل مع ميشال عون، لا بل حاول خلاله إسقاط الأهلية الدستورية عنه.
لعلّ ما سبق هو أخطر ما وصلت إليه الأزمة السياسية، التي بات معها لبنان عالقاً بين نزعة إلغائية، يبدو أنّ رئيس الجمهورية وفريقه البرتقالي لم يتخلّصا منها برغم كل المتغيّرات التي شهدتها البلاد نهاية الثمانينيات، وبين عقدة نقص مذهبية تدفع رئيس الحكومة المكلّف إلى اعتماد خطاب تصعيدي لترميم شعبية مفقودة وتعزيز ما تبقّى منها.
انطلاقاً من ذلك فقط يمكن فهم «الحركات المراهقة» بين سعد الحريري وجبران باسيل خلال الجلسة البرلمانية، حين تجنّبا إلقاء التحية على بعضهما البعض، كما لو أنّ المفاوضات الحكومية باتت أشبه بمفاوضات ترسيم الحدود غير المباشرة، التي يتجنّب فيها فريقا التفاوض التحدث مباشرة إلّا من خلال وسيط.
لكن المشكلة في المفاوضات الحكومية، أنّ فرقاءها يرفضون حتى وجود الوسيط، بدليل أنّ المبادرة الفرنسية، وهي الوحيدة التي كانت مطروحة حتى الأمس القريب على الطاولة، قد باتت شيئا ًمن الماضي، وهو ما تكرّس عملياً في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان.
السؤال الذي يكاد يطرحه كل لبناني بعد جلسة مجلس النواب هو: ماذا بعد؟
يصعب تحديد إجابة، في ظلّ غياب مرَضي للإحساس بالواجب والمسؤولية السياسية والوطنية والأخلاقية والدستورية والقانونية، والذي من شأنه أن يفرض على الجميع في الموالاة والمعارضة وما بينهما، أن يستشعروا خطورة المرحلة الراهنة والمصيرية التي تهدّد لبنان واللبنانيين في وجودهما.
المشكلة الكبرى التي يتجاهلها المعطلون عمداً، أنّ الحلول ليست مستحيلة في حال انتقل هؤلاء من النزعة النيرونية المستعدة لحرق البلد والاستمتاع بمشهد النيران، إلى حالة صحوة ضمير من صرخات المواطنين العالقين بين فوضى الأسعار وجحيم الدواء المفقود وطوابير الانتظار عند محطات الوقود.
في خطاب عيد المقاومة والتحرير قدّم الرئيس نبيه بري مجدداً خريطة طريق لإنقاذ البلد من طريق إلى جهنم، الذي يبدو أنّ كلاً من الرئيسين عون والحريري قد استقرا عند منعطفه… وهو ما حدّده في خمس نقاط يفترض المنطق السليم أن أحداً لا يمكنه أن يجادل بشأنها، أو أن يجاهر برفضها:
أولاً، تحرير لبنان من عقدة الأنانية التي يمعن من خلالها البعض في تقديم أهوائه ومصالحه الشخصية على مصالح الوطن والمواطن.
ثانياً، تحرير لبنان من حقد الطائفية والمذهبية من خلال الاقتناع بأنّ المدخل الحقيقي والمستقبل الحقيقي لتحصين لبنان وعدم تعريضه بين فترة واخرى الى اهتزازات امنية وسياسية يكون من خلال الدولة المدنية وإقرار قانون للانتخابات، سواء بدائرة إنتخابية واحدة أو بدوائر موسعة خارج القيد الطائفي كحدّ ادنى على اساس النسبية وانشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف بعدالة.
ثالثاً، تحرير لبنان من احتلال المحتكرين للقمة عيش الناس وأمنهم الصحي والدوائي والغذائي، وكل ما هو متصل بحياة اللبنانيين اليومية وتحرير أموال المودعين في المصارف.
رابعاً، تحرير القضاء من التدخّلات السياسية وإقرار قانون استقلاليته وتفعيل الهيئات الرقابية ومكافحة الفساد ونهب المال العام.
خامساً، الإعتراف بأنّ مشكلتنا الحكومية الراهنة «مئة بالمئة» محض داخلية وشخصية، وبالتالي فإنّ حلّها ممكن لبنانياً.
لا يختلف اثنان على أنّ المدخل الإلزامي للإنقاذ، كما شخّصه الرئيس نبيه بري، هو أن يبادر اليوم المعنيون بالتأليف والتشكيل، وبعد ذلك التوقيع بعيداً من الشروط المسبقة ومن دون تلكؤ، الى إزالة العوائق الشخصية التي تحول دون تشكيل حكومة وطنية، أعضاؤها من ذوي الاختصاص غير الحزبيين، لا اثلاث معطّلة فيها… وكل ذلك من خلال الاحتكام للدستور، بوصفه آخر ما تبقّى من نظامنا السياسي المهترئ.
لو أنّ الذاكرة السياسية في لبنان سليمة لأنصف اللبنانيون بكل أطيافهم الرئيس نبيه بري، في ما طرحه من خرائط طريق ومبادرات للحل. لكن بما أنّ «آفة حارتنا النسيان»، على حدّ قول الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ، يمكن الافتراض أنّ اللبنانيين لن يتذكّروا صرخات رئيس مجلس النواب إلّا «بعد خراب مالطا»... وحتى ذلك الوقت سيكون لسان حال العقلاء في هذا البلد: على من تقرأ مزاميرك يا دولة الرئيس؟