صحافة لبنانية - عثمانية تتألق جريدة «الجوائب» العالمية
صحافة لبنانية - عثمانية تتألق جريدة «الجوائب» العالمية
اخبار مباشرة
وضّاح يوسف الحلو
Saturday, 22-May-2021 05:52

صحيفة أسبوعية - سياسية باشرت حياتها التحررية في «الآستانة - اسطنبول» خلال شهر تموز سنة 1860 زمن الفتنة المارونية - الدرزية لمنشئها الأديب اللبناني فارس الشدياق، بعد تبنّيه الاسلام الرسمي واتّخذ لنفسه اسم احمد نتيجة مقتل شقيقه الأصغر اسعد على يد رجال البطريرك يوسف حبيش بعد اعتناق اسعد المسيحية البروتستانتية التي أسّسها الألماني مارتن لوثر كينغ ضد الكاثوليكية، وجرت بين الديانتين حروب دموية مخيفة على المستوى الاوروبي.

 

بعد عشر سنوات من صدور «الجوائب» في الاستانة استقدم لها الاديب فارس الشدياق مطبعة خاصة لتنتشر بعدها «الجوائب» صحفياً في الشرق والغرب، وبذل جهده السلطان عبد العزيز (قتله خفيةً الصدر الأعظم مدحت باشا) في تعزيز النشاط بهدف بثّ فكرة الخلافة النبوية الاسلامية. وكان فارس الشدياق يتلقّى دعماً مالياً عثمانياً بمقدار 500 ليرة تركية سنوياً ذهباً، وبنفس المقدار كانت المساعدة المالية من خديوي مصر ومحمد الصادق باي تونس.

في هذه الاثناء تقبّل الاديب فارس الشدياق الاسلام، وأضاف اسم احمد على تركيبته العائلية بعد اضطهاد أخيه اسعد من قبل المارونية السياسية، إذ التحق بالاميركي اسحق بيرد وربما يكون بطريرك الموارنة يوسف حبيش على حق، ومات اسعد شاباً مقهوراً ومداساً عليه، فاعتبره البروتستانت قدّيساً كبولس الرسول يحتفل بيوم مولده.

في هذه الاثناء تألفت «جمعية العلوم والفنون» ضَامّةً إليها الشيخ ناصيف اليازجي والدكتور العالم بطرس البستاني وايلي سميث وكورنيللوس فانديك والقس وليم طوسون والمستشرق منصور كرتلي والدكتور يوحنا ورتبات ويوسف كتافاغوا والكولونيل تشرشل الانكليزي المقيم في لبنان، وقد بلغ عدد اعضاء الجمعية الخمسين جملتهم من النصارى.

في هذه الظروف الدموية والماحلة في لبنان من اواخر عام 1860 ظهرت جريدة هامة في عاصمة الخلافة الاسلامية تحت اسم «الجوائب» لصاحبها الاديب اللبناني الكبير الشدياق، إبن عشقوت وشقيق المؤرخ طنوس صديق الامير الشهابي الكبير بشير والمقهور في وادي قنوبين اسعد، في تموز عام 1860 صادرة عن المطبعة السليمانية. انما بعد السنة العاشرة أسّس لها الشدياق مطبعة خاصة مع تجهيزها بكل ادوات فن الطباعة، وقد انتشرت «الجوائب» بشكل غير متوقع، ونالت شهرة واسعة لم تنلها جريدة سواها فكان يقرأها سلاطين العرب وملوكهم وعلماؤهم. وكانت «الجوائب» لا تخلو من المناظرات والمناقشات العلمية والسياسية بعين اكبر اختصاصي ذلك العهد كالشيخ الموهوب ابراهيم اليازجي والكونت رشيد الدحداح وابراهيم الأحدب والدكتور لويس صابونجي والشيخ اللغوي سعيد الشرتوني والمعلم بطرس البستاني ورزق الله حسون ويوسف باقوس. والاديب احمد فارس الشدياق احسن الاضطلاع بمهمة الصحافي، وتمّت على يده حسنات كثيرة من خدمة اللغة والادب والعلم والسياسة وكان له الفضل في ارتقاء بعض الصحف السياسية، وترجم التوراة بطلب من «جمعية ترجمة التوراة في لندن». وعندما غادر الدنيا، ووري الثرى في تربة السلطان محمود لعظم شأنه، لكن ابنه سليم التمس نقل رفاته الى الحازمية فكان له، وان يكن اليوم اصبح المدفن بلا شاهد، وأطلب من وزارة الثقافة أن تركّز اهتمامها على فارس الشدياق ومَن همّ بمثل حاله.

ترك فارس الشدياق الى «الجوائب» عشرات المؤلفات الأدبية، اهمها: «الساق على الساق فيما هو الفراق، «الجاسوس على القاموس»، «كشف المخبّا من فنون اوروبا»، «الواسطة في احوال مالطا»، و»غنية الطلب ومنية الراغب».

وفي ظل مظالم واستعباد عهد عبد الحميد الثاني، جاهد احمد فارس الشدياق بذكاء متنوّر لاختراق جدران حكم الطاغية لمعرفته وخبرته الواسعة بشؤون الغربيين (كانت زوجته انكليزية)، وسبر غور سياستهم ووقف بذاته على أحوال بلادهم، لذلك جاءت «الجوائب» عربية اللغة، عالمية التبويب على عمق تغطية متنوّعة مع الأخذ بالاعتبار فتنة 1860 بين الموارنة والدروز مع يقين القارئ رغم تفشّي الجهل والامية انّ عدداً هاماً من شبان لبنان تلامذة المعلم بطرس البستاني والشاعر ناصيف اليازجي عملوا على بعث الثقافة العربية من مراقدها كحركة قومية تاريخية اختصرها النبي محمد: «ولقد أنزلناه قرآناً عربياً بلسان عربي مبين» ليسكن في الحجاز او المدينة لا في الآستانة.

 

«حديقة الأخبار» - طليعة الصحافة

يعتبر الروائي والشاعر والصحافي خليل خوري من ابرز رجالات النهضة في لبنان خلال القرن التاسع عشر. ولد في الشويفات عام 1836 المشهورة بقببها الثلاث: الامارة والعمروسية والقبة، ومقطونة من الامراء الارسلانيين اذ سكنها الوزير المرحوم المير مجيد ارسلان واليوم ولده المير النائب فيصل ارسلان.

إنتقل الوالد بابنه خليل الى بيروت حيث تلقى علوم العربية في مدرسة الروم الارثوذكس وشَبّ على فطنة واضحة وذكاء جلي، حتى لما أكمل العشرين من عمره كان على مستوى متقدم من الكتابة والتأليف فترك للاجيال القادمة 6 دواوين شعرية، ورواية «النعمات وحنظة» و»وي، لست بافرنجي»، وعملاً كتابياً حول الاخلاق، وكتابَي «خرابات سوريا» و»تاريخ مصر» و»النشائد الفؤادية» و»الدولة العثمانية في الماضي» و»الحاضر والمستقبل» و»ترجمة الدستور العثماني» و»الكواكب العثمانية في تاريخ الدولة العلية».

حصل خليل خوري على حق «أبا الصحافة العربية»، مثلما وصف بـ»شاعر الليل» لأنه استرسَل في وصف الليل بالرقة والطلاوة والانسيابية والسلاسة. فكان رخم العبارة، لطيف الاسلوب بالمقارنة مع من سبقه في دنيا الأدب حتى وصفه مارون عبود «بأول من أفرغ الشعر القديم في قالب جديد». تنقّل خليل او تقلّب في عدة وظائف، منها مساعد ناظر الخارجية العثماني فؤاد باشا الذي أشرف على بعض إعدامات الجيش التركي في الشوف وحاصبيا، ثم عمل مديراً لـ»مطبعة الولاية»، وسنة 1880 اصبح مديراً للامور الاجنبية، ثم أنشأ «الجمعية الخيرية الارثوذكسية» ودخل عضواً في «الجمعية العلمية السورية».

وإذ عدّ الروائي والشاعر خليل خوري من ابرز رجالات النهضة في لبنان (والأكيد انّ امين الريحاني وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران لم يتعرفوا لا إليه ولا إلى أدبه او صحافته) فإنه أشرف على صدارة الصحافة اللبنانية باسم: «حديقة الاخبار» التي أنشأها عام 1858 برخصة من السلطان عبد الحميد الثاني المصنَّف ظالماً للصحافة، وقد مهّد خليل لطباعتها بتأسيس مطبعة أطلق عليها اسم «المطبعة اللبنانية».

ويقول الصحافي الفيكونت طرازي: «وفي غرّة كانون الثاني سنة 1858 أنشأ خليل خوري صحيفة «حديقة الاخبار»، فكانت اول جريدة عربية صدرت برخصة رسمية من طرف الحكومة العثمانية خارجاً عن عاصمة السلطة».

ويقول خليل خوري نفسه عن جريدته انه «أسّس لصحيفته مطبعة خاصة وقد جلبَ الحروف من المطبعة الكاثوليكية، وقد أدّت هذه المطبعة أجَلّ الخدمات لقرّاء العربية في لبنان وسوريا»، وقد حافظت هذه الجريدة في كل ادوار حياتها (توقفت نهائياً عام 1911 مع وفاة خليل في الـ 71 من العمر) على مبدأ الاستقامة وحب النفع العام، مَسنوداً خليل من شقيقه سليم في تحرير ابواب الصحيفة التي اعتبرت عالمية يومها وحاول من خلالها تأسيس حياة فكرية في الديار اللبنانية مجتهداً للابتعاد عن المشاكل السياسية مهتمّاً بتحسين اسلوب اللغة العربية وتبسيطها.

ومع بدايات «حديقة الاخبار» حصلت الفتنة الكبرى عام 1860 بتدخل مكشوف من الجيش العثماني، فأرسلت تركيا وزيرها فؤاد باشا مع تزويده بمعلومات مفصّلة وصولاً حتى الاعدامات، وقد اتخذ هذا الوزير قرارات مصيرية منها ان تكون «حديقة الاخبار» في خدمة خطة الحكومة العثمانية، مع اعتبارها جريدة نصف رسمية مع تعيين راتب شهري لخليل خوري قدره 20 ليرة عثمانية ذهباً.

 

بين الصدر الأعظم مدحت باشا والمتصرّف رستم

كانت أخلاق رستم باشا غريبة لناحية تعجرفه واعتداده بنفسه مع سرعة الغضب وميل الى الانتقام. ففي احدى المرات كان مدحت باشا ورستم باشا يتسامران، ويفتخران بما أقدما عليه من المغامرات. فرطَ من الصدر الاعظم مدحت باشا كلام مؤدّاه انه أقدم على قتل السلطان عبد العزيز وبعد ثلاثة اشهر على قتل السلطان مراد الخامس.

 

كان مدحت باشا متنوراً بشكل انفرادي تحت مظلة حكم العثمانيين، يدافع عن كل من نُكب بالقهر والاذلال وبروز دائماً المعلم بطرس البستاني وابراهيم اليازجي جاعلاً حماية رسمية لقصيدة ابراهيم «دع مجلس العنيد الاوانس»، التي نظمت عام 1868 وقد نشرت سراً وكان لها صدى مرناناً ردّدته مختلف الاقطار العربية مما جعل حكومة الآستانة تهتم بها لمعرفة ناظمها. ويقول حبيب اليازجي ابن اخ ابراهيم انّ عمه لم ينظم البيت القائل «والخير كل الخير في هدم الجوامع والكنائس»، وناظمه الكاتب اديب اسحق وانه لقي استحساناً عند الفرماسونية - الماسون فتناقلوه وتداولوه.

 

ويشير المؤرخ الكبير جرجي زيدان الى انّ الوزير الناشط مدحت باشا هو مَن أوعز الى ابراهيم اليازجي لنظم قصيدة اخرى مطلعها: «تنّبهوا واستفيقوا ايها العرب»، والقصيدتان ثوريتان ومهيجتان، وانّ المعلمين الاحرار (جماعة الماسون) أطلقوا عليهما «مرسيلياز العرب»، والظاهر انّ الناشط مدحت باشا كان ماسونياً.

 

ربما كان مدحت باشا ماسونياً وقد نقل هذا الميكروب الى المثقف الشمولي ابراهيم اليازجي لكنه حامى عن الاسلام.

 

ردّ مدحت باشا على الصحف الفرنسية والانكليزية فقال: «صحيح انّ الدولة العثمانية مريضة لكن ليس بالسل الذي ليس له دواء بل بالافرنجي القابل للشفاء، وأطال مدحت بكلامه الذي كانت له ردود اوروبية إيجابية».

theme::common.loader_icon