«آموك» ومحنة التماهي في الحب
«آموك» ومحنة التماهي في الحب
كه يلان محمد
Saturday, 08-May-2021 06:00

يقول الشاعر الإيطالي تشيزاري بافيزي إنّ الحبّ سبب للانتحار، كون الحب يكشف عري الإنسان وبؤسه ويظهره كأعزل وسط العدم. وربما يكون رأي الشاعر الإيطالي مدخلاً مناسباً لقراءة الرواية القصيرة «آموك» للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ.

 

الحبكةُ التي يقومُ عليها العمل هو الحب، وهذا ما يتّضحُ من المفردة التوضيحية للعنوان «سعار الحب». إذاً، فإنَّ محتويات الرواية تفصيلُ لإرساليات العتبة الأولى، ومن المعلوم أنَّ زفايغ يميلُ في بناء رواياته إلى التكثيف والمتانة في الحبكة والاستبطان على المستوى النفسي لدى شخصياته، كما لا يدعُ المكان غائماً بل غالباً ما ينطلقُ الحدثُ من فندق أو شقّة أو ميدان خيل أو ربما متن السفينة. كذلك بالنسبة لـ»آموك»، فإنَّ الباخرة الراسية في نابولي قد تحوّلت خلال الرحلة إلى منصة لرواية الشخص الذي عاش تجربةً عاطفية عميقة.

 

قصة عائمة

بعدما يشير إلى ما يقومُ عليه متن العمل، يسترسلُ الراوي في الحديث عن رحلة عودته من الهند إلى أوروبا، إذ يرصد الأجواء على متن الباخرة لافتاً إلى أن الازدحام قد حرمه من لحظة الهدوء. وفيما أراد الانهماك في القراءة، كانت حركة المارّة تقطع عليه متابعة الفكرة إلى أن يتمكّنُ من التصالح مع هذا الصخب، وأعجبه تأمّل البحر والناس. ومن ثمَ ينجحُ الراوي في الالتفاف على الوجوه التي تشبع منها ويهرب من قهقات النساء والمعزوفات الرديئة، وذلك عندما اختار في منتصف النهار النزول الى مقصورته وهو ثمل ليتمكّن من النوم، بينما كان يمضي الركاب هذا الوقت في الرقص وتناول الطعام، وحين توقفت الحركة على الباخرة صعد الراوي إلى السطح وبذلك اكتسب فضاءً هادئاً. هنا يأخذ مشهد الليل بنجومه المتوهّجة وسمائه الصافية مساحة من الوصف، وتتخلّلُ الصوَر البيانية إلى سبيكة اللغة، ولا ينقطعُ الراوي عن تأملاته في الأشياء ومعاينة الباخرة وتمخّرها في الحقل من الأمواج متذوقاً الهدوء ويذهبُ الوقت من دون أن ينتبه إليه. هكذا ينفردُ الراوي بالفضاء مستغرقاً في حواره الداخلي، قبل أن يَتناهى إلى مسمعه صوت السعال وينتزعه من أحلام اليقظة. وبالتالي ينضمُ صوت آخر إلى شريط السرد، غير أنَّ ذلك ليس مجرد زيادة في العدد بقدر ما هو مؤشر إلى التحوّل في مضمون القصة وصيغتها في آن واحد، حيثُ ينصرفُ الاهتمام الى الشخصية المنعزلة عن الحشود المسافرين. واللافتُ أن في اللقاء الأول لا يتبادلُ الإثنان سوى كلمات موجزة، لكن قبل أن يمشي الراوي سمع الرجل يطلبُ منه أن لا يخبر أحداً بوجوده على الباخرة، موضحاً بأن هناك أسباباً شخصية لعدم مخالطته بالناس. وهذا ما يصعّدُ من التوتر الدرامي في النص ويزيدُ رغبة الراوي لمعرفة أسرار هذا الشخص المتواري عن الأنظار. حاول البحث في لائحة أسماء المسافرين لعله يجدُ اسماً يكون اسمه، وما انفك يفكر في هذا اللغز على امتداد اليوم وفي الليل لم يمض كثيراً من الوقت في النوم نهض لمتابعة الرجل، وما ان يلتقي به مجدداً حتى ينتظم الحديث بين الإثنين بعد عبارات مجاملة وما يلبثُ الرجل طويلاً إلى أن يلمح إلى سره المكتوم ورغبته للحديث عنه، مضيفاً إلى أنه طبيب ومن شأن العاملين في هذا المجال مصادفة حالات فظيعة. ومن ثمَّ يتساءل هل يجب على الطبيب متعاوناً وطيباً ونبيلاً؟ ما يعني أنّ الرجل يمسكُ بحلقات السرد متصدراً المشهدَ.

 

أرض الأحلام

كانت بلاد الهند بمنزلة أرض الأحلام بالنسبة للإنسان الأوروبي. لذلك، من الطبيعي أن يصبحَ السفرُ إليها مشروعاً للمتطلّعين إلى الاكتشافات والعجائب المخبوءة. ومن جانبه أراد الطبيب استفادة من وجوده في الهند ويبدأ بدراسة اللغات وقراءة الكتب المُقدسة وإنجاز البحوث عن الأمراض واكتساب الخبرة عن روح السكان الأصليين. لكن ما عاشَه خلال 7 سنوات كان واقعاً مختنقاً، إذ لا يتحملُ الوافد من المدن الكبيرة ذلك المناخ القاتم، لذا يهربُ منه الأوروبيون بالإسراف في الشراب أو الأفيون أو بالإنتحار. ما يَردُ ضمن اعترافات الطبيب هو تورطه في حب امرأة وأخذ من أجلها الأموال من صندوق المستشفى، الأمر الذي كلّفه نجاحه المهني والضرب بمشروع لقاحه عرض الحائط، مشيراً إلى أنَّه كان لعبةً بيد النساء القويات. ووجد بالنسبة الى ما أعلنته الحكومة الهولندية عن انتداب الأطباء وإرسالهم إلى المستعمرات فرصة لتعويض خسارته. هناك تحصّن بعزلته مقاطعاً مواطنيه الأوروبيين ولم يفعل شيئاً سوى الانتظار. كان ينتظر انتهاء خدمته والعودة إلى أوروبا. هكذا كانت تمضي الأيام رتيبة إلى أن دخلت امرأة إلى حياته متوددة إليها مبديةً اعجابها بالعناوين الموجودة في مكتبة الطبيب، منها التربية العاطفية لـ»فلوبير»، يدور الحوار بين المرأة والطبيب عن الكتب والمرض، إذ يفهم الطبيب من خلال تأكيدات السيدة عن عدم إصابتها بالأمراض الإستوائية والحمى الغرض من زيارتها، فهي بخلاف غيرها من النساء لا تتوسل ولا يبدو عليها الخجل. يخبرها بأنّ ما تطلبه يكون خطراً للطرفين، وأن القانون يمنع الإجهاض. وعندما يسأله عن سبب اختيارها له؟ ذكرت أنه يعيش في العزلة وأنه طبيب جيد، ناهيك عن عدم بقائه في هذا البلد. وما يستغربهُ الطبيب في تلك المرأة لهجتها غير المساومة ورفضها التوسل أو القبول بصفقة مع الطبيب بموجبها يستمتع بمفاتنها الجسدية مقابل تخلّصها من الجنين. وعليه، اعترف الطبيبُ بأنه مجنون بالمرأة وملاحق إيّاها إلى المدينة، إذ يزدادُ اعجابه بالمرأة الفاتنة عندما يراها في قاعة القصر الحكومي ترسل تحيّاتها إلى هنا وهناك. يتبدلُ موقف الطبيب، كل ما يريده هو انقاذ حياة المرأة وحمايتها من الشبهة قبل عودة زوجها. وكان ذلك الواجب هو ما يربطه بالحياة بحسب قوله، تجازفُ المرأة وهي تلجأُ إلى إحدى الصينيات لأنها تحافظ على السرية، وحين يصلُ الطبيب يقع نظره على جسد المرأة الشاحبة لا تقبل الذهاب إلى المستشفى تفضّل الموت على أن يُفشى سرها. لم ينجح الطبيب في انقاذ حياة المرأة، لكن تمكن من حماية سرها وتفادي جثمانها من التحقيقات. أخيراً تنتهي الرواية بالتدوير، يعود الراوي الأول إلى الحدث الذي وقع في ميناء نابولي ولفت انتباه الجميع، ففي أثناء إنزال نعش سيدة هولندية من الباخرة الى الزورق، انزلق النعش وتهاوى جسم غريب فجأة من الباخرة ساحباً معه الزوج وحامل النعش الى الماء، ويتم انقاذ الإثنين بينما يختفي النعش والجسم الغريب في البحر. ومن نافلة القول الإشارة إلى أنّ ذلك الجسم الغريب لم يكن إلا الطبيب، وبذلك ينطبقُ عليه مدلول كلمة آموك التي يشرحها المترجمُ في المقدمة.

theme::common.loader_icon