"الحمامة" العلّة والمعلول في ذهن الإنسان
"الحمامة" العلّة والمعلول في ذهن الإنسان
نسرين بلوط
Wednesday, 05-May-2021 06:23

عندما تكونُ الرواية رمزيّة مبطّنة، فهي تستهدفُ صميم النّواحي النفسيّة التي تتلاعب بها عوامل الأقدار، وتخضع لسُنَنِ التعرّجات المباغتة التي تصنعها الفوضى اللامحسوبة، التي تكسر الروتين التلقائيّ الذي يرسمه المرء لطريقه ووقته وزمنه ومكانه، تماماً كما تتكسّر الأمواج على حوافّ الرمال مداعبة بزبدها أطرافها، ثم تحتدم هائجةً في ثورة غير متوقّعة عندما تهبّ العاصفة، فتُغرق الشاطئ في غير حساب، وتصنع البعثرة العشوائيّة.

في رواية «الحمامة» يلعب الروائيّ باتريك زوسكيند صاحب رواية «العطر» الشهيرة، دور شيخ البحر الذي يضيع في بحر همومه ويسلّط عليها مجهر المبالغة لتخلّ بتوازن زورقه وتكاد تطرحه غريقاً.

 

رحلة اللاعودة

القصة تدور حول جوناثان، الذي تبدأ رحلته في بلدته شارنتون عندما كان طفلاً صغيراً عائداً من رحلةٍ لصيد السمك، ويهرع داخل منزله باحثاً عن أمّه لتحضّر له طعام عشائه فلا يجدها، ويخبره والده بأنّ ظروفاً قاهرة أجبرتها على السفر، ولكنّ الجيران يخبرونه بأنّه تمّ ترحيلها إلى معسكر «درانسي» لتكون وجهتها الأخيرة الشرق، حيث لا يعود أحد حسب رأيهم، وبعد ذلك بأيّامٍ قليلة اختفى والده أيضاً، فوضعوه مع شقيقته في قطارٍ متّجهٍ إلى الجنوب ليسافرا سويّاً في رحلةٍ طويلةٍ انتهت إلى كافاياون، حيث كان عمّه بانتظارهما، فخبّأهما في مزرعته الكبيرة قرب «بوجيه» حتّى تنتهي الحرب.

 

هواء الخيبة

عمل جوناثان مع شقيقته في زراعة الخضار، ثمّ تطوّع في الجيش تلبية لرغبة عمّه، وتمّ ترحيله إلى الهند، ثمّ أصيب في الميدان برصاصةٍ في قدمه وأخرى في فخذه وبعدوى «الديزنطاريا»، فقضى عاماً كاملاً في المستشفى، وعندما عاد إلى بوجيه وجد شقيقته قد اختفت هي الأخرى، وقيل له بأنّه من المحتمل أن تكون قد هاجرت إلى كندا، فنصحه عمّه بالزواج والإستقرار، فلبّى رغبته ممنيّاً نفسه بحياةٍ هادئة رتيبة، ولكن ما فاجأه، بأنّ زوجته أنجبت طفلاً قبل مضيّ 4 أشهر على زواجهما، وهربت مع عشيقها بائع الخضار التونسي الذي كان يعمل في مرسيليا.

 

ينفض جوناثان غبار الهواء المشبّع بالخيبة من حوله ويقرّر المضيّ نحو باريس ليبدأ حياة جديدة، بعد أن أصبح نادرة يتفكّه بها الناس من حوله، وبعد أن أدركه الهمّ وانغرزتْ سهامُ اليأس في نحر صبره، فيجد أخيراً حظّه الكبير هناك في عملٍ بوظيفة حارس في مصرف يقع في شارع دوسيفر، ثمّ يخال أنّ الحظّ بالغ في عطاياه، عندما يجد مسكناً للإيجار في مبنى مخصّص لإقامة الخدم.

 

الحمامة

يقضي جوناثان ثلاثين عاماً موزّعاً بين عمله وغرفته الصغيرة التي عشقها وأحسّ للمرّة الاولى فيها بالإستقرار والإنتماء، حتّى صوّرها في نفسه بأنّها معشوقته التي تتحصّن بالدفء والأمان وتشعّ سكينةً وصفاء، وعاهد نفسه على عدم مغادرتها حتّى يوارى التراب، فدفع لشرائها من مالكتها السيّدة لوسال 47 ألف فرنك، على أن يدفع الـ8 آلاف فرنك الأخيرة بعد عام كامل، وتكون بعد ذلك ملكاً كاملاً له، ولكنّ هذه اللّمسة السحريّة لحياته الماضية في دعةٍ وهدوء بعيدة من شرور الناس قد تلاشت واندثرت في يوم جمعة من شهر آب من العام 1984.

 

فقد تهيّأ جوناثان كالعادة للخروج إلى الحمّام المشترك في المبنى قبل التوجّه لعمله، وما إن فتح الباب حتى طالعه وجه حمامةٍ تقف على بلاط المدخل ذي اللون الأحمر القاني، فجفل وتراجع وكأنّه رأى لتوّه وحشاً تهمّ بالإنقضاض عليه بأرجلها الحمراء ذات المخالب، وقد وصف عينيها كآلة التصوير التي تتنقّل دون حياة أو انعكاسٍ لضوء إذ تبتلعه وتمتصّه كلّه، وعندما أغلقتهما اعتقد أنّ العين قد اختفت كليّاً، وكأنّ شفتين من العدم قد ظهرتا لتبتلعاها حسب تعبيره.

 

تهاوت دنيا جوناثان المثاليّة ورهانه الدائم على استقراره الذاتيّ، وقبع تحت وهج الهمّ والمصيبة الصارخة التي حلّت به. وفي هذا يصف الكاتب شعوره في الكلمات التالية: «كان أوّل ما فكّر به أنّه سوف يصاب بجلطة قلبيّة أو بفالج أو على الأقل بانهيار عصبيّ، أنت مهيّأ لكلّ هذه الأمراض بحكم السن، فبعد الخمسين يمكن للمرء أن يتعرّض لمثل هذه الأمور لأتفه الأسباب».

 

حزم عندئذٍ ملابسه في حقيبة صغيرة، وقرّر أن يهجر الغرفة التي لطالما ضجّت بآماله الحلوة، قبل أن يهلك جوعاً ولا يجد مكاناً لقضاء حاجته، وارتدى معطفاً ثقيلاً في عزّ الصيف وحذاء شتويّاً عالياً تحسّباً لهجوم الحمامة عليه، ثمّ غادر الممرّ مسرعاً، وقد كاد قلبه يتوقّف ذعراً، وعند وصوله لأسفل المبنى صادف مدبّرة العمارة عائدة بصفائح الزبالة، ولطالما تفاداها، لما عرفه من حبّ فضولها ومستواها الثقافي المتدنّي ومراقبتها لجميع السكّان بعينٍ حاسدة، ولكنّه يواجهها ويطلب منها أن تتخلّص من الحمامة، ويذهب ليستأجر غرفة في فندقٍ رخيص، ويتوجّه لعمله في المصرف، وللمرّة الاولى في حياته لا يسمع ضوضاء سيّارة مدير المصرف السيد رودلز ولا يفتح له البوّابة الحديديّة مباشرة، ويقضي وقته متصلّباً كالتّمثال حتى يحين وقت الغداء، فيبتاع شطائر الزبيب والقهوة ويتّجه للحديقة، فيلتقي بالمتشرّد الذي يبصره منذ وصل إلى باريس، وقد كان يحسده على الرزق السريع والوفير الذي يحصل عليه دون عمل، ودون أن يضطرّ للإستيقاظ باكراً ليتسمّر أمام باب المصرف لساعاتٍ طوالٍ مثله، ولكنّه كفّ عن حسده له عندما وقعت عليه عيناه ذات صباح، وهو يتبرّز وسط الشارع أمام أعين المارّة، فحمد الله على أنّه أمّن له جدراناً تقي منظره العاري من نظرات الناس ومشاعر تقزّزهم ونفورهم.

 

عندما ينتهي من طعامه يتمزّق بنطاله عن طريق الخطأ ويتّجه سريعاً للخيّاطة التي ترفض إصلاحه بسرعة بسبب انهماكها في عملها، فيشتري لاصقاً ليغطّي به التمزّق على شقّ سرواله، ويعود إلى عمله ساهياً ساخطاً على كلّ من حوله، حتى المقهى الذي يواجه مكان عمله ودّ لو أنّه يوجّه سلاحه ليقتل جميع العاملين فيه، ويحوّل العالم إلى خرائب وحرائق، ولكنّه لم يكن شرّيراً بطبعه، فاكتفى بأن يقبع تحت لظى الشمس كأبي الهول.

 

عندما ينتهي دوام عمله ويعود إلى الفندق لينام، يستيقظ في منتصف الليل على دويّ الرّعد وسخط البرق، فينتفض واقفاً ويقرّر العودة إلى غرفته، فلا يجد الحمامة في الممر، فقط يلمح الممسحة المعلّقة التي تمّ تنظيف الممرّ فيها، والنافذة المغلقة التي تشي برحيل الحمامة إلى غير رجعة.

رواية الحمامة لباتريك زوسكيند تمتاز بأسلوبه الجميل السلس الذي يتمايل بتوازن دون أن يخلّ في أداء رقصته، وبتلميحاته العميقة المعنى التي تتجلّى في مشكلة «الحمامة»، وهي أبسط مشكلة تعترض الإنسان عادة، وتشبه الكثير من العقبات والعرقلات التي تمرّ بجميع الناس، فيقف المرء عندها مكبّلاً مشلولاً، يحسّ أنّ السحب قد تجمّعت فوق رأسه لتنذر بالويلات، ولكنّه يكتشف لاحقاً أنّ الحلّ كان أبسط ممّا رسمه في ذهنه وهوّله له خياله. وقد نجح زوسكيند في تحليل العلّة والمعلول، وإضفاء نكهة الفلسفة المبسّطة إلى روايته الهادفة.

theme::common.loader_icon