عاجل : مركز عمليات طوارئ الصحة العامة: غارة العدو الإسرائيلي على بلدة عيناثا أدت إلى سقوط شهيدين
الطوائف اللبنانية: علاقة مأزومة وطلاق مستحيل (2)
الطوائف اللبنانية: علاقة مأزومة وطلاق مستحيل (2)
اخبار مباشرة
الدكتور هيكل الراعي- باحث وأستاذ جامعي
Tuesday, 27-Apr-2021 06:21

في دراسة أكاديمية سياسية ترتبط مباشرة بالأحداث والتطورات التي نعيشها في لبنان، يحاول الباحث والأستاذ الجامعي الدكتور هيكل الراعي الإجابة عن سؤال محوري ومركزي وهو: هل لا تزال الجماعات والطوائف اللبنانية راغبة ومصمّمة على العيش مع بعضها؟ وكيف؟ ووفق أي نظام؟ وذلك سعياً لتأمين الاستقرار والتنمية والسلم الأهلي الدائم.

«الجمهورية» تنشر القسم الثاني من هذه الدراسة، بعدما كان الباحث استعرض في القسم الأول العلاقات بين الطوائف اللبنانية منذ إنشاء لبنان الكبير وحتى إندلاع الحرب الأهلية عام 1975.

 

 

السلاح الفلسطيني يُفجّر لبنان

المرحلة الرابعة تمتد من العام 1975 الى العام 1990. ففي 13 نيسان 1975 اندلعت الحرب الاهلية بعد أحداث دموية شهدتها بيروت بين ميليشيات حزب الكتائب من جهة والمسلحين الفلسطينيين من جهة أخرى. وانخرطت في المواجهات التي امتدت لسنواتٍ كل الأحزاب والقوى السياسية والطوائف اللبنانية، فلم تنجُ منطقة من المعارك المُتنقّلة التي زرعت الخراب والدمار في كل انحاء البلاد. وفي حزيران 1976 دخلت القوات العربية السورية الى لبنان لفك الحصار الفلسطيني عن قرى وبلدات مسيحية، وذلك بناء على طلب القيادات اللبنانية وبموافقة ضمنية من الولايات المتحدة الاميركية. ولم تلبث المواجهات ان انفجرت بين الميليشيات المسيحية من جهة والقوات السورية من جهة أخرى.

واستغلّت إسرائيل الوجود الفلسطيني المُسلّح على الأراضي اللبنانية وقابلية الطوائف المُتعايشة للنزاع الداخلي، لتظهر أنّ لبنان المُتعدّد الأديان والإنتماءات هو خطأ تاريخي ودولة مصطنعة، فأرسلت عملاءها والأسلحة لتأجيج النزاعات الطائفية. وسخّرت الصهيونية العالمية كل الوسائل لدحض مَقولة تعايش الطوائف في وطنٍ واحد وفي اطار ديموقراطي علماني. وهذا ما تجلّى في أكثر من حربٍ خاضتها إسرائيل في لبنان حيناً بوسائلها المباشرة (اجتياح العام 1982 واحتلال بيروت) وأحياناً غير مباشرة من طريق تقوية فئة او طائفة على أخرى، او تقوية الطائفتين معاً بعضهما ضدّ الآخر. ولنا من حرب الجبل الممتدة من خريف 1982 الى خريف 1983 خير شاهد على دور إسرائيل الأساسي الذي دقّ إسفيناً في وحدة لبنان التاريخية، علماً انّ حرب الجبل لم تكن هي الوحيدة التي تدخّلت فيها إسرائيل وأثبتت فيها مصالحها الهادفة، لا الى إنقاذ المسيحيين، كما كان يتوهّم البعض، بل الى تنفيذ خططها في الشرق الاوسط ( للمزيد من الضروري قراءة كتاب «آلان مينارغ» بعنوان: «اسرار حرب لبنان»). وقد نجحت إسرائيل في إحداثِ شرخٍ عميق بين المسيحيين والدروز في الجبل، من خلال المجازر التي ارتُكِبت وعمليات التدمير والتهجير التي حدثت.

لقد شهدت هذه المرحلة ظاهرتين مُهمّتَين لا تزالان تؤثّران في حياتنا السياسية والأمنية والإقتصادية الى أيامنا، الاولى تمثّلت في المقاومة الإسلامية بقيادة «حزب الله»، والثانية تجلّت في «التيار الوطني الحر» الذي أطلقه الجنرال ميشال عون. بالنسبة الى المقاومة الإسلامية، فقد ساهمت عوامل ثلاثة في نموها وتطورها: أوّلها الإحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان والذي كان أرضاً مُستباحة من التنظيمات الفلسطينية المُسلّحة، والثاني الثورة الإسلامية في ايران بقيادة الإمام الخميني التي انتصرت عام 1979 وأحدثت ارتدادات عند الشيعة في كل أرجاء العالم، والثالث عجز القوى الشرعية اللبنانية عن مواجهة الإعتداءات الإسرائيلية في ظلّ نظرية «قوة لبنان في ضعفه».

أما بالنسبة الى الجنرال ميشال عون، فقد شكّل تسلّمه رئاسة الوزارة بعد فراغ موقع رئاسة الجمهورية نهاية عهد الرئيس أمين الجميل، محطة مهمة في تطور الأزمة اللبنانية. فقد خاض الجنرال عون حربين، الأولى في مواجهة الميليشيات المسيحية بهدف بسط سلطة الجيش اللبناني على ما كان يُعرف بالمناطق الشرقية، والثانية ضدّ القوات السورية في ما أُطلق عليه «حرب التحرير». وقد انتهت المواجهات التي خاضها الجنرال عون، عندما أُعطي الضوء الأخضر للطيران السوري لكي يقصف قصر بعبدا مُمهّداً الطريق أمام القوات السورية لإجتياح المناطق التي كان يسيطر عليها الجيش اللبناني. وكانت نتيجة المعارك لجوء الجنرال عون الى السفارة الفرنسية ونفيه لاحقاً الى فرنسا حيث بقي 15 عاماً.

 

 

 

هزيمة المسيحيين

المرحلة الخامسة تمتد من العام 1990 الى اليوم. في العام 1990 دخل لبنان مرحلة جديدة في تاريخه. لأنّ توقيع «اتفاق الطائف» الذي تُرجِمَ بالدستور اللبناني الجديد، أعاد توزيع السلطة على الطوائف اللبنانية، من خلال تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لمصلحة مجلس الوزراء، وتركيب مجلس النواب والقوانين الانتخابية بنحو يعكس المعطيات الديموغرافية الجديدة، مع المحافظة على المُناصَفة الشكلية بين المسيحيين والمسلمين. لقد تَرجَمَ «اتفاق الطائف»، وما أعقبه من قوانين وتقاليد وأعراف جديدة، هزيمة المسيحيين وخسارتهم للحرب التي خاضوها منذ العام 1975. وأثبتت التطورات المتلاحقة الضياعٍ السياسي عند القسم الأكبر من القيادات المسيحية التي توالت على السلطة منذ ما قبل الاستقلال.

وفي مقابل تراجع نفوذ المسيحيين، شهد لبنان تصاعداً في العمليات العسكرية التي كان يخوضها مقاتلو «حزب الله» في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي. وهذا ما أجبر جيش العدو على الإنسحاب من جنوب لبنان، بعدما كان سحب قواته من بيروت نتيجة العمليات العسكرية التي قام بها مقاتلو الحزب السوري القومي الإجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني والأحزاب الوطنية. وقد عكست هزيمة إسرائيل وانسحابها من الجنوب، النفوذ المتصاعد للطائفة الشيعية، التي أصبحت شريكاً وازناً في السلطة الى جانب الطائفة السنّية والمسيحيين.

 

 

 

الطوائف في المحاور الاقليمية

وفي مواجهة التناغم السنّي ـ الشيعي المدعوم من المخابرات السورية العاملة في لبنان، التي كانت لها اليد الطولى في تركيب المجالس النيابية والحكومات، جاءت عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، بما يمثل لبنانياً وإقليمياً ودولياً، لتزرع الشقاق بين الطائفتين المُسلمَتَين ولتُعيد خلط الاوراق والتحالفات على الساحة اللبنانية. خرج الجيش العربي السوري من لبنان، فوجدت إسرائيل الفرصة مُناسبة لتصفية حساباتها مع «حزب الله» وحلفائه، فكانت حرب 2006، حيث استطاع اللبنانيون بتماسكهم ووحدتهم، منع العدو الإسرائيلي من تحقيق اهدافه.

ومع بداية ما سُمي خطأً «الربيع العربي»، إنفجرت الاوضاع في سوريا بدعمٍ إقليمي ودولي. فتدفّق المُقاتلون من كلّ انحاء العالم لدعم «الثورة السورية»، وخُصِّصَت مليارات الدولارات لإسقاط نظام الرئيس بشار الاسد. لكن النظام السوري لم يسقط بفعل تماسك الجيش السوري أوّلاً، ودعم «محور المقاومة» (إيران و»حزب الله» والمنظمات المؤيّدة لها في لبنان والعراق)، ثانياً، والموقف الروسي - الصيني الذي شكّل مظلّة دولية لحماية النظام ثالثا.ً

وبعدما أسقط الإرهاب التكفيري، مُمثَّلاً بتنظيمات أصولية تدّعي الإنتماء الى الإسلام، الحدودَ بين الدول التي نشأت إثر اتفاقية «سايكس- بيكو»، دخل لبنان بكل طوائفه في خضم الأزمة التي تضرب سوريا والعراق وغيرهما من الدول العربية. وانقسمت الطوائف اللبنانية بين المحاور الإقليمية المُتنازعة، فوقف السنّة الى جانب المحور الأميركي-الخليجي - التركي، ووقف الشيعة الى جانب المحور الروسي- الإيراني- السوري، بينما انقسم المسيحيون بين المحورَين.

 

 

 

خاتمة

لقد أخفق اللبنانيون في بناء الدولة القوية القادرة، العادلة، وفي بناء المواطن الذي يُدين بالولاء كاملاً لوطنه. وإذا كانت لهذه الظاهرة أسبابها الداخلية ومنها السياسي والإقتصادي والإجتماعي، إضافةً الى الممارسات الطائفية والأنظمة البالية والإختلالات الإجتماعية، فإنّ الأسباب الخارجية لا يُمكن ان تغرب عن بالِ أيّ باحث. هذه الأسباب تتمثّل بالأطماع التوسّعية والمخططات العدوانية الاسرائيلية من جهة، وبالتناقضات السياسية والدينية العربية التي انعكست تمزّقاً في الجسم اللبناني، من دون أن ننسى تحوّل لبنان (بعد اكتشاف النفط والغاز فيه) ساحة تجاذب بين القوى الكبرى، وورقةٍ متداولة في اللعبة الدموية الدائرة على ساحات الشرق الاوسط.

في الواقع، من خلال قراءة سوسيولوجية، يظهر في وضوح أنّ اللبنانيين اختلفوا في النظرة الى الإنسان والمجتمع والدولة والوطن، واختلفوا أيضاً حول شكل الإنتماء الى التاريخ وطبيعة العلاقات مع المحيط، وكان هذا الإختلاف مصدر نزاع في الإجتماع السياسي. وقد فشلت كلّ المقاربات التغييرية لإيجاد صيغة سوسيولوجية لاجتماعية الطوائف، لا بل دفعت هذه المقاربات الى مزيد من التمسّك بالخصوصيات وتشريعها في صيغ قانونية وواقعية خصوصاً في مرحلة ما بعد الإستقلال.

لقد اختزن الواقع اللبناني والتركيبة اللبنانية على الدوام، وفي صورة متواصلة، في ثناياهما، كثيراً من أسباب القلق والخوف والريبة والإلتباس في النظرة الى المستقبل، وتجسّد ذلك في التعارض الجوهري بين الرعاية الوحدوية للبنان الأرض والشعب والمؤسسات، وبين التمسك بذاتية الطوائف في المجتمع وبكياناتها الواقعية وبحقوقها في الدولة.

وفي الذكرى المئوية الأولى لإنشائه، يعيش لبنان أزمةً مصيرية جدّية. فالمُكوّنات الطائفية والجماعات اللبنانية عجزت خلال القرن الماضي عن بناء دولةٍ ووطن. والأزمات والحروب التي عاشها اللبنانيون والتي انتهت باتفاقات، أبرزها «اتفاق الطائف»، لم تساعد في بناء الدولة المدنية ولا في بناء مُواطنٍ وهوية. وكل الجماعات بقيت أسيرة مُعتقداتها وخوفها على وجودها، ولم تخرج من شرانقها لتلتقي بالآخر وتبني معه دولة المواطنة. لذلك، كلما هبّت العواصف الخارجية واشتدت الأزمات الداخلية تعود هذه الجماعات، التي فرزتها الحروب الأهلية في مناطق جغرافية، إلى التفكير مُجدَّداً في مدى ضرورة بقاء لبنان دولة مركزية مُوَحَّدة. وفي ظل المشاريع التقسيمية التي يجري الترويج لها في المنطقة، من سوريا والعراق إلى اليمن مروراً بليبيا وبعض دول الخليج، تبرز إمكانية جدّية لإعادة النظر في الصيغة اللبنانية، التي تُعاني مجموعة من الأزمات المتشابكة، وذلك من خلال الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي أو عقد اجتماعي جديد، للإجابة عن سؤال جوهري وأساسي وهو: هل لا تزال الجماعات والطوائف اللبنانية راغبة ومصممة على العيش بعضها مع بعض؟ وكيف؟ ووفق أي نظام؟ وذلك سعياً لتأمين الاستقرار والتنمية والسلم الأهلي الدائم.

 

theme::common.loader_icon