

على هذه الارض اللبنانية الضيّقة والخصبة والجاذبة كفم الحبيبة، تعاركت الطبيعة بين شوبٍ ذابح وبردٍ واخز، ولم تكن ابداً الاّ امتداداً بحرياً لجلافة وخشونة الصحراء العربية، التي لم تكن غريبة عن النصرانية بكثافتها واليهودية الموسوية والصائبة والمجوس واكثرية من الوثنيين.
وكان من الوثنيين الشاعر الفتى (27 عاماً) طرفة بن العبد القاعي شعراً مذ 1600 سنة ما عجز كل الشعر الاوروبي عن قوله ومنه:
«ان كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني ابادرها بما ملكت يدي»
كان هذا الشاعر يومها أمّياً، لكن كان على معرفة بأسرار اللغة العربية وفي نظرته آراء فلسفية سار عليها كل الشعر العربي اللاحق، واضطر ابو النوّاس الى استئجار بيته الشعري اللاحق منه.
«دع عنك لومي فإنّ اللوم اغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء»
ومن بيت الجاهلي الراقص «الاعشى» الضارب على الصنوج:
«وكأس شربت على لذةٍ
وأخرى تداويت منها بها»
«منبر الجيل الاول»
أقول هذه المقدمة الفصحية او «الفصحوية» بعد قراءتي لديوان الفصيح الارتجالي قيصر مرعي تحت عنوان «منبر الجيل الاول» المصاغة بقلم الاديب والشاعر ورسّام النمنمات جوزيف ابي ضاهر من منشورات جامعة الروح القدس.
والمتداول تقنيا وفنياً، انّ الارتجالي قيصر مرعي الذكي صعدوا قلاحينه تحت يد شحرور الوادي، الذي كان والده كاهناً ومعروفاً وينطق بست لغات ويرتجل الشعر ويؤثر على ولده الموهوب.
ومرة كان والد الشحرور «موروب الخلقة» فوضع «طابيته» (غطاء رأس الكاهن) جنبه وقال شعراً:
«يا طابيي قعدي هون
ويا خوري سمعان غنّي
وان ما عجبو سيدنا
يبعت ياخدها عني»
ولم يطل الشاعر قيصر مرعي حتى طلّ بقلاحينه واماليده راداً على كل الشعر الكلاسيكي السلفي، مع الاعتراف بحقه الطبيعي بأنّه هو من سار على بعض الاوزان العربية الى سعة كرم اللغة السريانية. فقال كأنّه يردّ دَيناً متكاوماً عليه، وقد أجاد في ردّه على السلفيين ولم يكن «النابغة» على ظهر ناقته آخرهم ليردّ عليه، وقد جمعهم الارتجالي الفطن قيصر مرعي في ثلاثة معاصرين: خليل روكز، واسعد الفغالي ورشيد نخله.
«نحنا ما قلنا شعرنا بينباس
ولا شطبنا اسم بو النواس
وبكرا متى قفّيت آخر كاس
بمعهد خليل وأسعد ونخله
بدكن تروحوا تسألو عني»
مشكل مع شحرور الوادي
ومن يقرأ ديوان قيصر مرعي من تجهيز الفنان المنمنماتي جوزيف ابي ضاهر (حصل على درع اغنية «طيري طيري يا عصفورة»)، يلاحظ انّ الارتجالي قيصر مرعي استنسخ كثيراً من عصبية شحرور الوادي الموهوبة. واليكم هذه الحادثة:
صيف 1936 «برّكت فرقة الشحرور في منطقة عمشيت - نقطة بعشتا وسط مدٍّ من الارض من ضمنه عين ماء معدنية وفعلاً معدنية، تختلف عن ما يباع من مياه في الاسواق اللبنانية، وكان القائمقام العمشيتي اسعد بك لحود قد ادخل العَصْرنة عليها، وحماها بحائط من احجار. تلاطم الشعر، وتخابط الارتجالي الى ان اقترب شاب كتلة من عظام وهيكل بشري ابن 17 سنة ابن جدايل، واسمه فكتور انطون، وطلب السماح له بالصعود الى المسرح وقول ما يريد. سُمح له وارسلها شعراً استفزازياً للشحرور:
«عندي حصان مدللو ومخنتو
ومن دم صدر الضد جايب حنتو
لو نقفتو براس عقدة خنصري
بتصير ترقص حنجلي ع رنتو»
استشاط الشحرور وزفّر راجفاً وغاضباً وهو في كامل لياقته والمسدس «ملقوح»على خصره وطلع بقصيد منه:
«ومن عمشيت عندما بغني قصيد
من حَر قلبي الدردنيل بفرقعو»
والذي جرى انّ الساعة كانت قد تجاوزت الواحدة ليلاً، ومرّت عدة مرّات أمام المنبر المدعوة عدلا، وهي امرأة مركونة الجسم، «مش عالارض خالقنا خلقها» كما يقول الارتجالي الغزلي طانيوس عبده (من عائلة القصيفي من بلدة اهمج الجبيلية) المشهور برقّة غزله والموجود على كرسي الارتجالي في حفلة فرقة الشحرور، الذي قال «الاوف» مقارناً بين القمر وجمال انسيابية المرأة الحاضرة:
«ليكو هالبدر البيهلّ
يمكن عقلاتو جنّو
كيف لو عين علينا يطل
وفي عنّا احسن منو»
البيت الشعري للشحرور قاله على بعشنا في منطقة عمشيت، وفي تناسق امرأة كانت ساهرة مع عشيقها بكلّ لهو في اواسط الثلاثينات.
اقول ذلك لأشير الى عصبية ومزاج الشحرور الذي بخّ مناخه على كل الشعراء والمستمعين والمتأثرين بأجواء الشحرور الذي يشكّل بطلاً قومياً لبنانياً حتى هذه اللحظة.
من التاريخ الآرامي
وعلى هذه القاعدة الوزنية الجماعية، الشعبية المسحوبة من عمق التاريخ الآرامي - السرياني، كحالة منفردة وخاصة جداً بالشعب اللبناني بين كل الشعوب العربية التي انفصلت عن تاريخها الثقافي باتجاه الانحطاط بين الارتجالي الساكب شعراً قيصر مرعي وعرزاله الانتاجي، واسمعه حين يحاكي والده:
«لا تستحي باسمك على جروحك صبور
فلاح مكفي خير من سلطان زور
تغدي ع بكرا ريحة صابيعك ندّي
وترجع عشيي ريحة تيابك زهور»
او كما يقدّم قريته للبنان وللعالم «حيطورا» (قضاء جزين) كحانية ومهتمة بالفئات اللينة من المجتمع:
«وع كل مفرق درب جوريّة
وع كل نبعة رف حجال
وجوزة قديمة عمرها ميّة
بعدها بتطعم فقير الحال»
جذب المثقفين
انتسب قيصر مرعي الى فرقة «جوقة لبنان» التي احتضنت اديب محاسب وطليع حمدان وجوزيف خويري.
وعام 1952 التحق بـ «عصبة الشعر» ثم الى جانب القدير جريس البستاني في جوقة «حسون الوادي»، وانتقل بعدها الى «جوقة لبنان» مع احمد السيد التي انضمّ اليها الارتجالي الخصب طليع حمدان. جذب بشعره كثيراً من كبار مثقفي لبنان، امثال النائب السابق والوزير والاديب ادمون رزق، فقال فيه: «موضوعاته مشرّعة على آفاق الوجود، مستمدّة من عمق التجربة الانسانية والوطنية، ثقافة المعرفة والتجربة يشارك في حلاواتها ويتجرّع مرارتها». وكتب الاديب المحافظ السابق للبقاع دياب يونس عن قيصر: «من مياه «حيطورا» شرب قيصر كوثر الشعر فغرّد هزاراً وعلى مدى ستين عاماً ارتقى المنبر متأبطاً قيثارة اوتارها السبعة: العشق والحنين، الوطن، الشباب والحرب، الالم، والموت».
شعر جريء
وفي الواقع، فإنّ الشاعر قيصر مرعي يتلألأ كمثقف في شعره الجريء الهجومي على رفقائه، غير هيّاب من مركزهم التقني - الشعري والجمالي، تماماً كما توصّل الى خلاصة شهيرة الفيلسوف الاغريقي الى ما قبل المسيح «بروتاغوراس»: «الانسان مقياس كل شيء»، اي انّ قيصر مرعي حوّل ذاته الجمالية ضمن ميتولوجيا الشعر الشعبي اللبناني الى ثابتة تتلقّى الزمهرير العاصف من دون ان يرتجف او ترتعد فرائض لغتها.
قيصر مرعي حاورهم جميعاً متضارباً معهم الكلام الشعري. كما اعاد تركيزه الناقد الهائل الشحرور اسعد الفغالي الذي جمع الصفتين: الجمالية الشعرية والنقدية التطوّرية للشعر، محترماً انسلاخها عن اللغة السريانية، خاصة الشاعر مار افرام. لكن الشعر الشعبي اللبناني يطابق ويتوافق مع بعض الأوزان العربية الخليلية التي صاغها بإرهاف خليل بن احمد الفراهيدي نحو سنة 786 وكان موسيقياً بإرهاف، واللهجة اللبنانية هي ابنة شرعية للغة العربية، وقد ظهرت ضاحكة ومقيّدة بعقود وزنيّة ومتفرّدة بنظامها التسلسلي بين كل الدول العربية، رغم وجود «قول شعبي» عند هذه الشعوب التي تخلّفت كثيراً عن ماضيها العميق. واعطيكم مثلاً: آخر «اوف» شعرية شعبية تسمعها في شتورة، واذا تابعت طريقك نحو الشام لمدة نصف ساعة تنطفئ وتختفي هذه الاصوات في مدينة تعدّ مع ريفها 7 ملايين انسان، وهم كانوا يشكّلون افواج السريان.
وقف مع مواجع شعبه
ركّز الشاعر قيصر مرعي على تحاب المسيحية والاسلام، ووقف مع مواجع شعبه واستنزال الآلام المهيضة بالناس حتى قال في «مجزرة قانا» الاسرائيلية:
«حنين لو بينقل من محلو
والكواكب يبطلو يطلو
في اربعة بالبال بيضلو
الجلجلة واطفال اورشليم
وولاد الحسين ومجزرة قانا»
يقول حلاّل مشاكل الادباء الكبير الياس ابو شبكة: «في الفصحى كثير من الحشو، اما في العامية شعر صافٍ من عيون الشعر»، وهكذا كان شعر الذكي قيصر مرعي الذي عاش مائة سنة وعامين، ليغادر متأنّقاً بشعره المصقول والمسبوك والملفوظ ارتجالياً مع كبار شعراء لبنان. والشعر شعر، لا فارق بين فصيح وعامي، ودرست حتى حدود الدكتوراه في الآداب ما بين فرنسا وروسيا، وفهمت انّ عندهم وزنين شعريين، وكبار شعرائهم من بودلير الفرنسي الى بوشكين الروسي نظموا على هذين الوزنين.
يقول قيصر مرعي في «وحي الميلاد»:
«عملك ع ارض النور شي مشوار
بتشوف اول سجن لـ»الأحرار»
وبيوت محروقة بقنابل عار
وشعب عم يدعس بقلب النار
مستنظر الرحمة من الغرب»
و»سجن الاحرار» اشارة شعرية الى «معتقل الخيام الاسرائيلي» مع عدم ايمان الشاعر بأنّ لا دعم ولا ثقة ولا رحمة من الغرب الذي سرق مسيحنا الاله، مع انّ ميدان شفاعته كان هنا، وصوته من على الجبل ارتج على هذه الارض، وعماده كان بمياه نهر الشريعة المتفجّر من هذه الصخور اللبنانية، وروح قدسه هنا، وقبره بين هذا الشعب.
كل ذلك عرفه الارتجالي الألمعي قيصر مرعي.
وعن «حيطورا» قال شاعرها:
«حيطورا، بأرض بلادي
مدرسة الشعر الهادي
الما بيمرق فيها بيكون
شاعر من دون شهادي»
يعود القدير قيصر مرعي كأجود المستمطرين ديمة زجلية وشعبية وحوارية جريئة الى قريته «حيطورا»، ليخلع عن اكتافه مشلح ادونيس بعد ان انهى مضاجعته لعشتروت.








