

من فيض عطف «إهراء روما» - سهل البقاع، إنتقيت رهافة صهوة سيف الشعر الشعبي الذي مارسه والدي يوسف منفرداً بعنوان الشاعر الجميل المحيّا لمجموعته الجديدة «رَقصة ع باب الضَو» البقاعي مارون بو شقرا، ورحتُ أحكّ ذاكرتي ما اختزنته واحتضنته من معلومات عن بدايات وانواع واستعمالات الشعر الشعبي، خاصة في لبنان حيث بلغت عمارته الهندسية مستوى موفقاً من التطور.
بدأت قيادة الزجل التنظيمية باكراً من خلال شحرور الوادي، ومن بلابله ميشال طراد الذي يكتب على نَسقه. وقبل ان أفتح الباب على مقطوعات وتغريدات الشاعر مارون بو شقرا، سأسرد بعض هَبجات وانطلاقات الشعر الشعبي السرياني بعد المسيح مباشرة، أخصَّهم مار افرام بميامره الرائعة وكانت بلا قوافٍ موحّدة، ومما يذكر انّ القديس مار افرام السرياني كان معروفاً بلقبه «كنارة الروح القدس».
طبيعة ثنائية
إمام الفصحى، العلامة اللغوي الشيخ عبدالله العلايلي حدد محسنات الشعر الزجلي، فقال: «وللزجل عندي رسالة خطيرة وبالغة الشأو والشأن، وينبغي بحاملي ألوانه ان يتأملوها جيداً، وأنا استمدها من معناها اللغوي الأبعد. انّ كلمة الزجل ذات طبيعة ثنائية تقوم على عنصرين: ألحان التطريب وعبارات التحريض، وبتعبير آخر، إنها تقوم على التفاؤل والقوة. فعلى الزجّال ان يأخذ الحياة على انها الجمال كلّه في شتّى صورها».
في تلك الأيام جاء موقف الشيخ عبدالله العلايلي مناقضاً لمفهوم الشاعر المرهف امين نخلة القائل: «العاميّة غير صالحة للنثر الفنّي»، أو كأنه يريد القول انّ الشعر بالفصحى هو أدب نخبوي فيما الشعر الشعبي هو أدب العامة من الجمهور. وهذا الرأي يعاكس كلّ ما قاله والده من شعر زجلي وهو الواضِع، أي رشيد نخلة، كلمات النشيد اللبناني.
يقول شاعرنا المتجوهر ذكاءً مارون بو شقرا عن الجرح الثخين دوماً الحسين:
«صَوتك ع رمل القهر
نَقّط زهر
يمرق السيف
يشقّ جرحك نَهر
تـ الحزن دهر
وعا جناب النهر
راكع ضمير الكون يتوَضّا...
نَبض الرساله بيت بيدَفّيك
ورود البلاغه رْبيت عا صدرا...
باقي متل مَ النور خالد فيك
واللي افتكر بي قَتلَك بيمحيك
التمثال طَق... وبِقيت العَضرا»
من لغة المسيح
لقد ابتدع الزجل في لبنان شعراً مونّقاً شمل كل نشاطات الحياة اليومية، وقمح الزجل اللبناني مسلوخ كله من الشعر السرياني وبقايا لهاث الآرامية اللتين تكلّم بهما المسيح وما زالتا في قرية «معلولا» السورية القريبة من الشام حدثاً يُروى. والاسلوب الذي يكتب به مارون بو شقرا وقبله الموهوب ميشال طراد (وقد حسده وغار منه سعيد عقل) مُستنسخ عن السريانية، وتحديداً عن مار افرام السرياني المُكنّى بـ»كنارة الروح القدس»، وقد ملأني الفرح عندما قرأت ورأيت فرقة ردّادة عراقية نسائية تواكب الكلام الجوهري لقداس البابا فرنسيس باللغة الآرامية التاريخية التي تفاهَم بها الإله المسيح مع الشعب الفقير ومريديه وحوارييه.
سبع مراحل استيعابية
مرّ الشعر الزجلي، بما فيه الوصول الى القصيدة الجمالية - الفنية التي كتب بها ميشال طراد ويكتب بها شاعرنا مارون، بسبع مراحل استيعابية مهمة، هي:
- المرحلة الأولى الممتدة من القرن السادس الى القرن الثالث عشر، وهي المرحلة التي ظهر فيها الريادي سليمان الأشلوحي (من قرية اشلوح العكارية التي لم تعد موجودة اليوم)، وهو من الروم الارثوذكس وممهّد الطريق للجبيلي ابن لحفد القس جبرائيل بن بطرس القلاعي. ويقول سليمان الأشلوحي في مرثيته المفتقرة الى الوزن السرياني الصحيح:
قد دخل الترك في الاسواق هاجمة
في البر والبحر حاطوها بمن كان معهم سيوف تقد الصخر اذ جردت
صرعت القتلى فوق الارض كدبان
هذا كان قبل مدائح ابن منطقة جبيل ابن القلاعي الذي قال عن هذه الزجلية المؤرخ اللاتيني كمال الصليبي «انها اقدم أثر تاريخي ماروني»، وتقع هذه الزجلية في 300 بيت، ومنها:
بشري بيوتك احترقت
بشري انعامك اندفقت
بشري كتبك اختنقت
كانت مملوءة طغيان
- المرحلة الثانية هي المرحلة الدينية والتاريخية.
- المرحلة الثالثة هي طرح التحدّي وممارسة الارتجال. وقد انوجد في قرية غرزوز (وهي من قرى جبيل السبعة الارثوذكسية) شاعر تحت اسم ابو هزيم، كان يحبّ ملاقاة الشعراء تحديّاً وقد زار مرة منطقة الشوف وراح يردّد قائلاً:
«قالولي في زجّالي
صرت محَيّر
وَينو شيخ القوّالي
يحضر هلّق»
حصل ذلك في القرن التاسع عشر، وكانت محاورات مع الشعراء الدروز واشتباكات بالأيدي.
- المرحلة الرابعة هي مرحلة التذوّق والابداع، حيث ظهر الشعر كما يكتبه مارون بو شقرا وكتبه ميشال طراد ومارسه شاعر رقيق من الشمال اسمه قزحيا ساسين، وظهر شاعر كبير هو عبدالله غانم واضع قصيدة مشهورة «دَقّت» وفيها يقول مَطلعاً:
«دَقّت على صدري وقالتلي افتحوا»
- المرحلة الخامسة هي مرحلة ظهور «الجوقات والمنابر» واولها «فرقة شحرور الوادي» عام 1928 التي ضمت شعراء لامعين كانت تجذب حوالى الأربعين ألف مستمع، وللشحرور قصيدة تؤرخ لهذه الفرقة مطلعها:
«أنا اللي حييت المعَنّى في بلادي»
- المرحلة السادسة هي مرحلة الاعتناء بالقصيدة ومن شعرائها، الموهوب ايليا ابو شديد وجوزف حرب.
- المرحلة السابعة هي شهود الزجل مرحلة جديدة مع ما قام به تلفزيون الـ OTV من خلال برنامج «أوف»، من اعداد الدكتور جورج عون مع الشاعر بسام حرب ابن الارتجالي القدير ادوار حرب، واشراف الشاعر الموسوعي ابن حراجل موسى زغيب الذي وضعت له بلدية قريته اول نصب تذكاري وهو فتى على قيد الحياة.
باشق قدير
على ضوء سنين من هذا التطور الزجلي برز كباشق القدير الفتى الشاعر مارون بو شقرا في مجموعته الجديدة «رَقصة ع باب الضو» وقبلها مجموعتان: «إنتِ وشو إنتِ» و»عشتار». وفي هذا النتاج يحاول مارون رصد الأشياء اللامرئية من حركة الوجود التي لا يشعر بها الانسان العادي، فيقول في قصيدة «جرّة عم تعبي ضوّ»:
فَجأه انتلى
كان القمر جايي
فاضي، حزين
منشّف بهالجوّ
حلمتو بإيدِك صار كِبّايه
وجرّة حلا
يانسونها حكايه
ومن لون جسمك
عم تعبّي الضو»
يكتب الشعر مارون مثل بلبل طار في جو البقاع وارتفع كثيراً ثم هبط كباشق ليغط منقاده في امواه العاصي شاكراً لبنان والبقاع. اكثر من شاعر بين فصحى وعامية أعطانا هذا السهل، يقودهم بسيفه الهَفهاف ميشال طراد وترتاح لهم زحلة وبعلبك، وتهف أرتال الحساسين مموسقة على تغريدات حقول القمح التي ما يزال مذاقها في تم العاصمة روما.
الكثير من طغاة العالم انمحوا وتحوّلوا الى رماد او اندثروا، لكنّ طعم منتجات البقاع مستمر كلهاث صبية عاشقة تراها منتصبة من وراء تفاحة او حبة كرز تصرخ على الدنيا:
«هَي دعستِك
بَخّة شتي بكير
هِي فَيّقت تموز
هَي نَعستِك
لِم تِنعَسي بيصير
صوت الحلم: فيروز...»








