مختبر جبل لبنان للقوميّة
مختبر جبل لبنان للقوميّة
شربل بو مارون

رئيس مركز المشرق للدراسات والأبحاث

Friday, 26-Feb-2021 06:17

ولدت دراسة التأريخ الحديث في القرن التاسع عشر، وتمّ تطويرها كأداة للقوميّة الأوروبية. كأداة ايديولوجية قوميّة، حقق تاريخ دول أوروبا نجاحًا كبيرًا، لكنّه حوّل فهمنا للماضي إلى مكب نفايات سامّة، مليء بسمّ «القوميّة الإتنية»، وتسرّب السم بعمق في الوعي الشعبي. باتريك ج. جيري.

على مرّ التاريخ، ارتبط الناس بالعادات والتقاليد، وبالمجموعة القبلّية، لأنّ الإنسان بطبعه كائن إجتماعي يبحث عن شبكة أمان تحميه من العوامل والقوى الطبيعية، وحققت له، تلك الشبكة، على مدى العصور تطورًا اجتماعيًا وعقائديًّا أوصَله إلى ما هو عليه اليوم. وبدأت النزعة «القوميّة» تتبلور لديه، فمثّلت ركنًا أساسيًّا ومتكررًا من الحضارات منذ العصور القديمة، على رغم أنّ الإحساس الحديث بالاستقلال السياسي الوطني وتقرير المصير كان رسميًا في أواخر القرن الثامن حيث بلغ التطور السياسي للقوميّة والدفع نحو السيادة الشعبية ذروته مع الثورات الإتنية في أوروبا، وأصبحت القوميّة إحدى أهم القوى السياسية والاجتماعية في التاريخ. لقد حدد العالم البريطاني طوماس سميث ثلاثة نماذج فكرية لفهم أصول وأسس القوميّة: النموذج الأول هو «البريمورديالية» أو البدائية، الذي يقول إنّ الأمم موجودة دائمًا، والقوميّة هي ظاهرة طبيعيّة. النموذج الثاني هو «الإثنوسيمبوليّة»، ويفسّر القوميّة على أنها ظاهرة ديناميكيّة تطوّريّة، ويشدّد على أهميّة الرموز الوطنيّة المشبعة بالمعنى التاريخي والأساطير والتقاليد والمتوارثات الشعبيّة في تطوّرها. أما النموذج الثالث المعروف بالـ «مودرنايزيشن» أو الحداثة، التي ظهرت في القرن الثامن عشر، فيعتبر أن القوميّة كظاهرة تحتاج إلى الظروف الهيكليّة للمجتمع الحديث (التحول الصناعي والحرية الاقتصاديّة...) كي تخرج للعلن. أخذت القوميّة أشكالًا متعددة، كالقوميّة الإتنيّة المتمثلة بالعرق واللغة والتراث والثقافة المشتركة والذاكرة الجماعيّة، أمّا القوميّة المدنية فتقوم على مبادىء القيم والمواطنية والدستور واحترام العقد الإجتماعي، فأفكار روسو وهوبز ولوك وماكيافيليي أسهمت في بلورة الأفكار، وبدأت فكرة التحرر من الاستعمار، وباتت الولايات المتحدة «قوميّة مدنيّة» ومنارة للحرية والازدهار الذي تحقق من خلال مجموعة من المبادئ الأخلاقية والفلسفية طرحها مؤسسوها، والتي تم تنفيذها بشكل «مثالي»، وباتت تعرف بالحلم الأميركي. وظهر مبدأ حق تقرير المصير في أواخر القرن التّاسع عشر، لكنّه اشتهر وانتشر مع الرئيس الأميركي الدّيمقراطي وودرو ويلسون من ضمن المبادىء الـ14 التي طرحها للسلم و»إعادة بناء» أوروبا بعد الحرب العالميّة الأولى وتحوّل لاحقاً إلى مبدأ أساس لمحاربة الإستعمار وإلغاء السيطرة الأوروبية لا سيما في أفريقيا، وسُمّي حينها التنافس على أفريقيا، وآسيا في ما بات يعرف باللعبة الكبرى، بالإضافة إلى المسألة الشرقية. أدى هذا الأمر إلى تغيير في الخارطة الجيوسياسية وبرزت قوى عظمى جديدة، كالولايات المتحدة والرايخ الألماني والاتحاد السوفياتي... وفي منتصف القرن التاسع عشر، واجه المشرّعون البريطانيون أمبراطورية آخذة في الانحسار بخوف، بعد أن أُجبروا على منح الحكم الذاتي لكندا بعد تمرد عام 1837، وبدأ الباكس بريتانيكا بالانهيار نتيجة عوامل كثيرة، كظهور الولايات المتحدة والحلم الأميركي والتربّع على عرش العالم الحديث، في حين شكّل الرايخ الألماني التوسعي تحديًا إقليميًا في أوروبا القارية، وفي الوقت نفسه بدأ الوعي القومي والحق بتقرير المصير يتسرّب إلى قلوب السكان الأصليين في أفريقيا وآسيا، لذلك بَدا الأمر كما لو أن نجم الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس والتي تسيطر على حوالى 24 % من مساحة العالم و23 % من سكان الكرة الأرضية، وشرطي العالم طوال قرن من الزمن، بدأ بالأفول، فتم استبدال الأمبراطورية باتحاد فيدرالي يتكون من مستعمرات البيض في أستراليا وكندا ونيوزيلاندا ونيو فوندلاند وجنوب أفريقيا، أو ما بات يُعرف بالكومنولث. تسرّب الوعي القومي وحق تقرير المصير إلى الدول التي كانت تحت الحكم العثماني، وبتنا نسمع بالمسألة الشرقية، فكان لا بد من العودة الى أرشيف «الكي دورسيه» وبعض الباحثين الذين درسوا تلك المرحلة، للاطلاع على مجريات الأحداث لا سيما في لبنان، حيث تبيّن أنّ عددًا كبيرًا من الجمعيات ظهرت في لبنان، حيث كان التوجّه القومي ينقسم إلى 3: العربي والسوري واللبناني. وفي ما يلي، نستعرض بعضها. بالتزامن مع عصر القوميات، أصبحت القوميّة العربية القوة السياسية الأولى والمحركة للجماهير في بلاد الشام والعراق، حيث ظهرت كردة فعل على سياسة جمعية الاتحاد والترقي التي عملت على تَتريك الوجود الثقافي وإلغاء كل شيء غير تركي، فكانت الجمعية القحطانية و»العربية الفتاة». وكان من روّاد حركة القوميّة العربية مفكرون من أمثال قسطنطين زريق وميشال عفلق وزكي الأرسوزي، بالإضافة إلى ساطع الحصري وعبدالرحمن عزام، وانبثقت أحزاب كثيرة عن الفكر القومي العربي في ما بعد كحزب البعث العربي الإشتراكي والأحزاب الناصرية. تجلّت القوميّة العربية في أوجها من خلال ثورة الشريف حسين، وفي لبنان كان أغلب مسلمي لبنان من مؤيدي الدعوة الشريفية؛ فبحسب أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، سارت تظاهرات في طربلس وبيروت وصيدا للمطالبة بضَم لبنان إلى الوحدة العربية، وكان على رأس تلك المظاهرات زعماء أمثال عبد الحميد كرامة، ورياض الصلح وعمر الداعوق وعادل أرسلان وغيرهم... وكان الفكر الفلسفي الاقتصادي الطاغي على القوميّة العربية هو الفكر اليساري الاشتراكي. وربط منظّروه العروبة بالإسلام بشكل واضح، وأقرّوا بأن الإسلام كان وسيلة العرب إلى الحضارة والرفعة، فمن يريد أن يفصل بين العروبة والإسلام كمن يريد أن يفصل بين الروح والجسد. أما الجمعيات ذات التوجه السوري فكانت متعددة، أبرزها اللجنة المركزية السوريّة، حزب الإتحاد السوري وجمعية سوريا الجديدة الوطنية التي كانت تسعى لتشكيل سوريا الطبيعية تحت الوصاية الفرنسيّة. إضافة إلى رابطة سوريا-جبل لبنان للتحرير التي ضمت جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وطالبت بوحدة سوريا الطبيعية على أساس ديمقراطي فيديرالي ورفض فرض الهوية العربية على السوريين. فضلاً عن اللجنة السورية - اللبنانية في البرازيل، والتي تكلمت عن وحدة سوريا الجغرافية والإتنيّة وحقّها بالاستقلال. وكان هناك جمعيات كثيرة تدور في فلك هذه اللجنة، تزعّم بعضها خليل سعادة والد أنطون سعادة، والمؤكد أنّ الزعيم سعادة أمضى مرحلة طويلة في أميركا الجنوبية، وقد اطّلع على أدبيات هذه اللجنة. أنتج هذا التيار حزبًا عقائديًا يمينيًّا هو الحزب السوري القومي الإجتماعي، والسياسسة الاقتصادية المعتمدة لهذا الحزب هي كأغلب سياسات الأحزاب اليمينية القوميّة، تعتمد الاقتصاد القومي التّشاركي وليس الاشتراكي أو ما يسمّى الرأسمالية المخططة، التي تدعو الى تفضيل مصلحة الأمة على مصلحة الفرد، والانسجام الصناعي المخطط والنقابوية، واعتماد الحمائية لجهة تفضيل الإنتاج القومي وفرض الرسوم على الاستيراد. القسم الثالث كان توجهه قوميًّا لبنانيًّا، فكانت جمعيات وحركات لها وزنها على صعيد النخَب والمثقفين وعلى مستوى القاعدة الشعبية المسيحيّة، بدءًا من الوفود اللبنانية إلى مؤتمرالصلح التي قادها البطريرك الياس الحويك أو من ينوب عنه، وقد حاولت هذه الجمعيات مواجهة التيار العروبي والتيار السوري ومارست عمليات تأثير وضغط (لوبييغ) على عواصم القرار، لا سيما فرنسا، ويبدو أنها انتصرت «نسبيًّا»، حيث أنّ لبنان حصل على نهائية الكيان كحد أدنى. فكان حزب الاتحاد اللبناني، وكان يوسف السودا ومرتكزاته الـ17 لنهائية الكيان اللبناني والعقبات السبع التي تمنع زوال لبنان، وقد طالب الحزب باستقلال لبنان تحت حماية الدول الكبرى. جمعيّة النهضة اللبنانية برئاسة نعوم مكرزل، والتي دعت الى الاستقلال تحت الوصاية الفرنسيّة، بالإضافة الى الرابطة اللبنانية في باريس، والى ما سمّي حركة ربيع 1919، وهي حركة شعبيّة في مختلف المناطق المسيحية، تجسّدت ببرقيات وعرائض ومظاهرات تطالب بالاستقلال. أنتجت القوميّة اللبنانية أحزابًا متعددة، كانت بأغلبيتها تنتهج الليبيرالية كسياسة اقتصادية. أمّا الموقف الشيعي من لبنان فيمكن تلخيصه بالتقرير التالي الذي ارسله Meyrier وكيل المفوض السامي دو مارتيل في 31 آب 1936، ومما جاء فيه: «هنالك 155 ألف متوالي في لبنان، التجمعات الأساسية لهم في بعلبك والهرمل والجنوب، مع وجود أقليّة في المدن. دعاة الوحدة السّورية والعربية أقلية بينهم... لديهم 4 نواب، أكدوا على تمسّكهم بسلامة لبنان ضمن حدوده الحاليّة، وقد اكّد زعيمهم الروحي السيّد مغنية للرئيس اميل ادّه أنه مع الاستقلال. ويختم التقرير بقوله إنّ 98 % من متاولة لبنان هم مع لبنان الكبير المستقل تحت الوصاية الفرنسية». وبالحديث عن القوميّة اللبنانية والوطن القومي، لا بد من الإتيان على ذكر الرئيس اميل ادّه، ذلك الذي شَيطنه وخوّنه كثيرون، لكن هاجسه كان قدرة لبنان على البقاء متماسكًا ضمن حدود لا تتحوّل عرضةً دائمة للضغوط الإقليمية. فلا يمكن أن يقوم وطن، بمواطنين ومناطق آثرت حينذاك أن تتوحد مع سوريا. فإذا كان ثمن الاستقرار هو التخلي عن تلك المناطق كطرابلس، أو منحها وضعية مستقلة، فإميل إده كان مستعدًا لخيارات خارج السرب، إن ضمنت هي استقلال لبنان على المدى الأطول ضمن حدود أضيق، ذات أغلبية مسيحية. فهل كان إميل إده صائبًا في خياره؟ لبنان أصغر حجمًا، ذو أغلبية مسيحية، تربطه كدولة مستقلة معاهدة مع فرنسا تتضمن بنداً عسكرياً لحمايته؟ فكرة الوطن القومي المسيحي للنصارى في الشرق، فكرة راودت الكثيرين من بينهم اغناطيوس مبارك، مطران بيروت للموارنة، الذي رفع رسالة إلى الأمم المتحدة باسم فريق من المثقفين المسيحيين اللبنانيين والمشرقيين، وكان البحث جديًّا لنقل سكّان مسيحيين من سوريا إلى لبنان... بين القوميات الثلاث، انتصرت القوميّة اللبنانية ولكن بتعديل بسيط، هو الوجه العربي، فأنصاف الحلول من الصيغة إلى اليوم، أنتجت نظامًا هشًّا يتعرّض لهزة كل 15 عامًا. الأفكار خالدة، تراها تعود مرة أخرى إلى الحياة عندما تنضج الظروف. من بين هذه الأفكار، فكرة الدولة «الحضارية» القائمة على التعددية الإتنية والحضارية، والتي تسترشد بالأخلاق والقيم، عادت الآن إلى الصدارة في السياسة العالمية. فإذا كان القرنان التاسع عشر والعشرين قرنَي الدول القوميّة، فإنّ القرن الحادي والعشرين هو عصر الدول الحضارية. وبالعودة الى بريطانيا، CANZUK هو اختصار لمجتمع نظري ثقافي ودبلوماسي واقتصادي يضم كندا وأستراليا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة كجزء من منظمة دولية أو اتحاد مُشابه في نطاقه للمجموعة الاقتصادية الأوروبية السابقة. ويشمل ذلك زيادة التجارة والتعاون في السياسة الخارجية والتعاون العسكري وتنقّل المواطنين بين الدول الأربع. فكرة عادت لتظهر في مراكز القرار والأبحاث اليمينية البريطانية لاستعادة المجد السابق لبريطانيا، خصوصًا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. فهذه الدول هي ما يعرف بالـ»أنجلوسفير» الناطقة باللغة الإنكليزية، والتي لها روابط حضارية وثقافية وتاريخية مشتركة مع المملكة المتحدة، والتي تحافظ اليوم على تعاون سياسي ودبلوماسي وعسكري وثيق معها. هنالك أمل في أن يتحقق ذلك مع إدارة الرئيس الديموقراطي جو بايدن، الذي صرّح في خطاب القسم أنّ أميركا ستعود منارة للحرية وقدوة للعالم، كما واستشهد بالقديس أغوسطينس؛ لا ندري اذا فعل ذلك ليظهر للعالم أنه كاثوليكي أم لأنّ هذا القديس هو صاحب نظريّة «الحرب العادلة»، مما يعني أنَّ الولايات المتحدة ستعود مجددًا شرطي العالم. ستدعم الولايات المتحدة على الأرجح الكتلة المقترحة لأنها ستسمح بتشكيل العمود الثالث للقوة الغربية، إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. اذا نجح هذا المثل، يصبح لمنظري القوميّة السورية مثال ملموس يقتدون به لتطبيق حلمهم، بفدرالية دول ممكن أنْ تمتد من قبرص إلى جبل لبنان، وصولاً إلى كرباخ. حلّ آخر لمشكلة لبنان يكمن بالعودة إلى الوطن القومي المسيحي، أو اعتماد القومية المدنية على مثال الولايات المتحدة، أو بدكتاتورية على مثال تشيلي وسنغافورة، حيث وُجد «دكتاتور» تخلّص من اليسار، واستطاع «فرض» الحرية الاقتصادية والليبيرالية الكلاسيكية. وبالتالي، أصبح الناس جميعهم سواسية تجمعهم القيم والتقدم الاقتصادي. ويكمن الحل الأخير في تطبيق المثل السويسري كاملًا، فكما سويسرا كذلك لبنان، بلد قائم على التعددية الحضارية والإتنية والدينية، نجح في التقدم، نتيجة تبنّيه الحياد، والاقتصاد الحر (مع السرية المصرفية) والكونفدرالية. لكلّ حل منظّروه، فبدل الصراع الحضاري، نحوّل لبنان من جديد إلى مختبر ينتج الأفضل، نقرأ التاريخ بموضوعية، نأخذ العبر ونفكّر خارج العلبة كي نجد الحل.

 

على مرّ التاريخ، ارتبط الناس بالعادات والتقاليد، وبالمجموعة القبلّية، لأنّ الإنسان بطبعه كائن إجتماعي يبحث عن شبكة أمان تحميه من العوامل والقوى الطبيعية، وحققت له، تلك الشبكة، على مدى العصور تطورًا اجتماعيًا وعقائديًّا أوصَله إلى ما هو عليه اليوم. وبدأت النزعة "القوميّة" تتبلور لديه، فمثّلت ركنًا أساسيًّا ومتكررًا من الحضارات منذ العصور القديمة، على رغم أنّ الإحساس الحديث بالاستقلال السياسي الوطني وتقرير المصير كان رسميًا في أواخر القرن الثامن حيث بلغ التطور السياسي للقوميّة والدفع نحو السيادة الشعبية ذروته مع الثورات الإتنية في أوروبا، وأصبحت القوميّة إحدى أهم القوى السياسية والاجتماعية في التاريخ.

 

لقد حدد العالم البريطاني طوماس سميث ثلاثة نماذج فكرية لفهم أصول وأسس القوميّة: النموذج الأول هو "البريمورديالية" أو البدائية، الذي يقول إنّ الأمم موجودة دائمًا، والقوميّة هي ظاهرة طبيعيّة. النموذج الثاني هو "الإثنوسيمبوليّة"، ويفسّر القوميّة على أنها ظاهرة ديناميكيّة تطوّريّة، ويشدّد على أهميّة الرموز الوطنيّة المشبعة بالمعنى التاريخي والأساطير والتقاليد والمتوارثات الشعبيّة في تطوّرها. أما النموذج الثالث المعروف بالـ "مودرنايزيشن" أو الحداثة، التي ظهرت في القرن الثامن عشر، فيعتبر أن القوميّة كظاهرة تحتاج إلى الظروف الهيكليّة للمجتمع الحديث (التحول الصناعي والحرية الاقتصاديّة...) كي تخرج للعلن.

 

أخذت القوميّة أشكالًا متعددة، كالقوميّة الإتنيّة المتمثلة بالعرق واللغة والتراث والثقافة المشتركة والذاكرة الجماعيّة، أمّا القوميّة المدنية فتقوم على مبادىء القيم والمواطنية والدستور واحترام العقد الإجتماعي، فأفكار روسو وهوبز ولوك وماكيافيليي أسهمت في بلورة الأفكار، وبدأت فكرة التحرر من الاستعمار، وباتت الولايات المتحدة "قوميّة مدنيّة" ومنارة للحرية والازدهار الذي تحقق من خلال مجموعة من المبادئ الأخلاقية والفلسفية طرحها مؤسسوها، والتي تم تنفيذها بشكل "مثالي"، وباتت تعرف بالحلم الأميركي.

 

وظهر مبدأ حق تقرير المصير في أواخر القرن التّاسع عشر، لكنّه اشتهر وانتشر مع الرئيس الأميركي الدّيمقراطي وودرو ويلسون من ضمن المبادىء الـ14 التي طرحها للسلم و"إعادة بناء" أوروبا بعد الحرب العالميّة الأولى وتحوّل لاحقاً إلى مبدأ أساس لمحاربة الإستعمار وإلغاء السيطرة الأوروبية لا سيما في أفريقيا، وسُمّي حينها التنافس على أفريقيا، وآسيا في ما بات يعرف باللعبة الكبرى، بالإضافة إلى المسألة الشرقية. أدى هذا الأمر إلى تغيير في الخارطة الجيوسياسية وبرزت قوى عظمى جديدة، كالولايات المتحدة والرايخ الألماني والاتحاد السوفياتي...

 

وفي منتصف القرن التاسع عشر، واجه المشرّعون البريطانيون أمبراطورية آخذة في الانحسار بخوف، بعد أن أُجبروا على منح الحكم الذاتي لكندا بعد تمرد عام 1837، وبدأ الباكس بريتانيكا بالانهيار نتيجة عوامل كثيرة، كظهور الولايات المتحدة والحلم الأميركي والتربّع على عرش العالم الحديث، في حين شكّل الرايخ الألماني التوسعي تحديًا إقليميًا في أوروبا القارية، وفي الوقت نفسه بدأ الوعي القومي والحق بتقرير المصير يتسرّب إلى قلوب السكان الأصليين في أفريقيا وآسيا، لذلك بَدا الأمر كما لو أن نجم الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس والتي تسيطر على حوالى 24 % من مساحة العالم و23 % من سكان الكرة الأرضية، وشرطي العالم طوال قرن من الزمن، بدأ بالأفول، فتم استبدال الأمبراطورية باتحاد فيدرالي يتكون من مستعمرات البيض في أستراليا وكندا ونيوزيلاندا ونيو فوندلاند وجنوب أفريقيا، أو ما بات يُعرف بالكومنولث.

 

تسرّب الوعي القومي وحق تقرير المصير إلى الدول التي كانت تحت الحكم العثماني، وبتنا نسمع بالمسألة الشرقية، فكان لا بد من العودة الى أرشيف "الكي دورسيه" وبعض الباحثين الذين درسوا تلك المرحلة، للاطلاع على مجريات الأحداث لا سيما في لبنان، حيث تبيّن أنّ عددًا كبيرًا من الجمعيات ظهرت في لبنان، حيث كان التوجّه القومي ينقسم إلى 3: العربي والسوري واللبناني. وفي ما يلي، نستعرض بعضها.

 

بالتزامن مع عصر القوميات، أصبحت القوميّة العربية القوة السياسية الأولى والمحركة للجماهير في بلاد الشام والعراق، حيث ظهرت كردة فعل على سياسة جمعية الاتحاد والترقي التي عملت على تَتريك الوجود الثقافي وإلغاء كل شيء غير تركي، فكانت الجمعية القحطانية و"العربية الفتاة". وكان من روّاد حركة القوميّة العربية مفكرون من أمثال قسطنطين زريق وميشال عفلق وزكي الأرسوزي، بالإضافة إلى ساطع الحصري وعبدالرحمن عزام، وانبثقت أحزاب كثيرة عن الفكر القومي العربي في ما بعد كحزب البعث العربي الإشتراكي والأحزاب الناصرية. تجلّت القوميّة العربية في أوجها من خلال ثورة الشريف حسين، وفي لبنان كان أغلب مسلمي لبنان من مؤيدي الدعوة الشريفية؛ فبحسب أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، سارت تظاهرات في طربلس وبيروت وصيدا للمطالبة بضَم لبنان إلى الوحدة العربية، وكان على رأس تلك المظاهرات زعماء أمثال عبد الحميد كرامة، ورياض الصلح وعمر الداعوق وعادل أرسلان وغيرهم... وكان الفكر الفلسفي الاقتصادي الطاغي على القوميّة العربية هو الفكر اليساري الاشتراكي. وربط منظّروه العروبة بالإسلام بشكل واضح، وأقرّوا بأن الإسلام كان وسيلة العرب إلى الحضارة والرفعة، فمن يريد أن يفصل بين العروبة والإسلام كمن يريد أن يفصل بين الروح والجسد.

 

أما الجمعيات ذات التوجه السوري فكانت متعددة، أبرزها اللجنة المركزية السوريّة، حزب الإتحاد السوري وجمعية سوريا الجديدة الوطنية التي كانت تسعى لتشكيل سوريا الطبيعية تحت الوصاية الفرنسيّة. إضافة إلى رابطة سوريا-جبل لبنان للتحرير التي ضمت جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وطالبت بوحدة سوريا الطبيعية على أساس ديمقراطي فيديرالي ورفض فرض الهوية العربية على السوريين. فضلاً عن اللجنة السورية - اللبنانية في البرازيل، والتي تكلمت عن وحدة سوريا الجغرافية والإتنيّة وحقّها بالاستقلال.

وكان هناك جمعيات كثيرة تدور في فلك هذه اللجنة، تزعّم بعضها خليل سعادة والد أنطون سعادة، والمؤكد أنّ الزعيم سعادة أمضى مرحلة طويلة في أميركا الجنوبية، وقد اطّلع على أدبيات هذه اللجنة. أنتج هذا التيار حزبًا عقائديًا يمينيًّا هو الحزب السوري القومي الإجتماعي، والسياسسة الاقتصادية المعتمدة لهذا الحزب هي كأغلب سياسات الأحزاب اليمينية القوميّة، تعتمد الاقتصاد القومي التّشاركي وليس الاشتراكي أو ما يسمّى الرأسمالية المخططة، التي تدعو الى تفضيل مصلحة الأمة على مصلحة الفرد، والانسجام الصناعي المخطط والنقابوية، واعتماد الحمائية لجهة تفضيل الإنتاج القومي وفرض الرسوم على الاستيراد.

 

القسم الثالث كان توجهه قوميًّا لبنانيًّا، فكانت جمعيات وحركات لها وزنها على صعيد النخَب والمثقفين وعلى مستوى القاعدة الشعبية المسيحيّة، بدءًا من الوفود اللبنانية إلى مؤتمرالصلح التي قادها البطريرك الياس الحويك أو من ينوب عنه، وقد حاولت هذه الجمعيات مواجهة التيار العروبي والتيار السوري ومارست عمليات تأثير وضغط (لوبييغ) على عواصم القرار، لا سيما فرنسا، ويبدو أنها انتصرت "نسبيًّا"، حيث أنّ لبنان حصل على نهائية الكيان كحد أدنى. فكان حزب الاتحاد اللبناني، وكان يوسف السودا ومرتكزاته الـ17 لنهائية الكيان اللبناني والعقبات السبع التي تمنع زوال لبنان، وقد طالب الحزب باستقلال لبنان تحت حماية الدول الكبرى. جمعيّة النهضة اللبنانية برئاسة نعوم مكرزل، والتي دعت الى الاستقلال تحت الوصاية الفرنسيّة، بالإضافة الى الرابطة اللبنانية في باريس، والى ما سمّي حركة ربيع 1919، وهي حركة شعبيّة في مختلف المناطق المسيحية، تجسّدت ببرقيات وعرائض ومظاهرات تطالب بالاستقلال. أنتجت القوميّة اللبنانية أحزابًا متعددة، كانت بأغلبيتها تنتهج الليبيرالية كسياسة اقتصادية.

 

أمّا الموقف الشيعي من لبنان فيمكن تلخيصه بالتقرير التالي الذي ارسله Meyrier وكيل المفوض السامي دو مارتيل في 31 آب 1936، ومما جاء فيه: "هنالك 155 ألف متوالي في لبنان، التجمعات الأساسية لهم في بعلبك والهرمل والجنوب، مع وجود أقليّة في المدن. دعاة الوحدة السّورية والعربية أقلية بينهم... لديهم 4 نواب، أكدوا على تمسّكهم بسلامة لبنان ضمن حدوده الحاليّة، وقد اكّد زعيمهم الروحي السيّد مغنية للرئيس اميل ادّه أنه مع الاستقلال. ويختم التقرير بقوله إنّ 98 % من متاولة لبنان هم مع لبنان الكبير المستقل تحت الوصاية الفرنسية".

 

وبالحديث عن القوميّة اللبنانية والوطن القومي، لا بد من الإتيان على ذكر الرئيس اميل ادّه، ذلك الذي شَيطنه وخوّنه كثيرون، لكن هاجسه كان قدرة لبنان على البقاء متماسكًا ضمن حدود لا تتحوّل عرضةً دائمة للضغوط الإقليمية. فلا يمكن أن يقوم وطن، بمواطنين ومناطق آثرت حينذاك أن تتوحد مع سوريا. فإذا كان ثمن الاستقرار هو التخلي عن تلك المناطق كطرابلس، أو منحها وضعية مستقلة، فإميل إده كان مستعدًا لخيارات خارج السرب، إن ضمنت هي استقلال لبنان على المدى الأطول ضمن حدود أضيق، ذات أغلبية مسيحية. فهل كان إميل إده صائبًا في خياره؟ لبنان أصغر حجمًا، ذو أغلبية مسيحية، تربطه كدولة مستقلة معاهدة مع فرنسا تتضمن بنداً عسكرياً لحمايته؟

 

فكرة الوطن القومي المسيحي للنصارى في الشرق، فكرة راودت الكثيرين من بينهم اغناطيوس مبارك، مطران بيروت للموارنة، الذي رفع رسالة إلى الأمم المتحدة باسم فريق من المثقفين المسيحيين اللبنانيين والمشرقيين، وكان البحث جديًّا لنقل سكّان مسيحيين من سوريا إلى لبنان...

 

بين القوميات الثلاث، انتصرت القوميّة اللبنانية ولكن بتعديل بسيط، هو الوجه العربي، فأنصاف الحلول من الصيغة إلى اليوم، أنتجت نظامًا هشًّا يتعرّض لهزة كل 15 عامًا.

 

الأفكار خالدة، تراها تعود مرة أخرى إلى الحياة عندما تنضج الظروف. من بين هذه الأفكار، فكرة الدولة "الحضارية" القائمة على التعددية الإتنية والحضارية، والتي تسترشد بالأخلاق والقيم، عادت الآن إلى الصدارة في السياسة العالمية. فإذا كان القرنان التاسع عشر والعشرين قرنَي الدول القوميّة، فإنّ القرن الحادي والعشرين هو عصر الدول الحضارية.

 

وبالعودة الى بريطانيا، CANZUK هو اختصار لمجتمع نظري ثقافي ودبلوماسي واقتصادي يضم كندا وأستراليا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة كجزء من منظمة دولية أو اتحاد مُشابه في نطاقه للمجموعة الاقتصادية الأوروبية السابقة. ويشمل ذلك زيادة التجارة والتعاون في السياسة الخارجية والتعاون العسكري وتنقّل المواطنين بين الدول الأربع. فكرة عادت لتظهر في مراكز القرار والأبحاث اليمينية البريطانية لاستعادة المجد السابق لبريطانيا، خصوصًا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. فهذه الدول هي ما يعرف بالـ"أنجلوسفير" الناطقة باللغة الإنكليزية، والتي لها روابط حضارية وثقافية وتاريخية مشتركة مع المملكة المتحدة، والتي تحافظ اليوم على تعاون سياسي ودبلوماسي وعسكري وثيق معها. هنالك أمل في أن يتحقق ذلك مع إدارة الرئيس الديموقراطي جو بايدن، الذي صرّح في خطاب القسم أنّ أميركا ستعود منارة للحرية وقدوة للعالم، كما واستشهد بالقديس أغوسطينس؛ لا ندري اذا فعل ذلك ليظهر للعالم أنه كاثوليكي أم لأنّ هذا القديس هو صاحب نظريّة "الحرب العادلة"، مما يعني أنَّ الولايات المتحدة ستعود مجددًا شرطي العالم.

 

ستدعم الولايات المتحدة على الأرجح الكتلة المقترحة لأنها ستسمح بتشكيل العمود الثالث للقوة الغربية، إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

 

اذا نجح هذا المثل، يصبح لمنظري القوميّة السورية مثال ملموس يقتدون به لتطبيق حلمهم، بفدرالية دول ممكن أنْ تمتد من قبرص إلى جبل لبنان، وصولاً إلى كرباخ. حلّ آخر لمشكلة لبنان يكمن بالعودة إلى الوطن القومي المسيحي، أو اعتماد القومية المدنية على مثال الولايات المتحدة، أو بدكتاتورية على مثال تشيلي وسنغافورة، حيث وُجد "دكتاتور" تخلّص من اليسار، واستطاع "فرض" الحرية الاقتصادية والليبيرالية الكلاسيكية. وبالتالي، أصبح الناس جميعهم سواسية تجمعهم القيم والتقدم الاقتصادي. ويكمن الحل الأخير في تطبيق المثل السويسري كاملًا، فكما سويسرا كذلك لبنان، بلد قائم على التعددية الحضارية والإتنية والدينية، نجح في التقدم، نتيجة تبنّيه الحياد، والاقتصاد الحر (مع السرية المصرفية) والكونفدرالية.

 

لكلّ حل منظّروه، فبدل الصراع الحضاري، نحوّل لبنان من جديد إلى مختبر ينتج الأفضل، نقرأ التاريخ بموضوعية، نأخذ العبر ونفكّر خارج العلبة كي نجد الحل.

theme::common.loader_icon