«لا يستطيع البطريرك الماروني إلّا أن يدعم رئيس الجمهورية الماروني». هكذا كان يعتقد رئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود. وهذا ما ثَبُت بالممارسة، إذ إنّ البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير رفض في عام 2005 الدعوات الى استقالة لحود وإسقاطه في الشارع، على رغم العلاقة المتوترة بين القصر الجمهوري وبكركي طيلة عهد لحود.
على رغم أنّ لحود لم يُراعِ التقاليد المُعتمدة من المرجعية الدستورية المارونية الأعلى تجاه المرجعية الروحية المارونية الأعلى أو تجاه العادات الدينية، ونَزع مواقع وظيفية في الدولة من حصّة المسيحيين بغية إثبات أنّه رئيس علماني «غير طائفي» ما أزعَج بكركي، فضلاً عن معارضة صفير لتعديل الدستور آنذاك والتمديد للحود، إضافةً الى الاختلاف في وجهات النظر السياسية بين بعبدا والبطريركية، ووقوف الرجلين على طرفَي نقيض سياسياً، خصوصاً لجهة الانسحاب السوري وتطبيق القرار 1559، إلّا أنّ لحود حَظي بـ»حماية» صفير حتى اللحظة الأخيرة من ولايته الرئاسية المُمدّدة.
هذه المشهدية تتكرّر الآن، حيث هناك دعوات الى استقالة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، في مقابل رفض البطريرك مار بشارة بطرس الراعي لهذه المطالبة، فـ»رئيس الجمهورية لا يُعامَل بهذه الطريقة بل وفق الأصول الدستورية». والى «الثوّار» والشارع المُنتفض، إنّ متصدّري المطالبين باستقالة عون، هم أنفسهم الذين تصدّروا المطالبة باستقالة لحود آنذاك، وفي طليعتهم رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط والنائب السابق الدكتور فارس سعيد. إلّا أنّ رفض البطريركية المارونية إسقاط رئيس الجمهورية، وامتناع الأحزاب المسيحية الرئيسية عن تَصدُّر هذه المطالبة، أدّت الى أن يكمل لحود ولايته الرئاسية، وهي «تحمي» عون الآن حتى نهاية عهده، هذا إضافةً الى أنّ عون مُحصّن بدعم «حزب الله» حتى الآن وبكتلة نيابية وازِنة، فضلاً عن أنّ فريقه ما زال يعتبر، على رغم «انتفاضة 17 تشرين» وعلى رغم تراجع لبنان على أكثر من صعيد في هذا العهد الى حَدّ الزوال، أنّ عون هو الرئيس التمثيلي و»الأقوى» مسيحياً. ويعتبر «العونيون» أنّ وجود رئيس قوي مثل الرئيس عون «لا يرضَخ ولا يساوم ولا يخاف ولا يترَهّب أو يترَغّب، سَبّب ضرراً كبيراً للذين كانوا يسيطرون على الحصة المسيحية في الشراكة، فضلاً عن أنّه الرئيس الوحيد الذي فتح ملف الفساد».
وسَبقَ لجنبلاط أن أكد أنّ العمل على إسقاط عون يجب أن تتصدّره القوى المسيحية وعلى رأسها البطريرية المارونية، فيما أنّ سعيد لا يكفّ عن تأكيد «استمرار دعوتنا الى استقالة عون، بمَعزلٍ عن موقف الراعي ومواقف «القوات اللبنانية» وغالبية الأحزاب المسيحية». ويشير سعيد الى أنّه كما كان متحمّساً لاستقالة لحود، على رغم رفض البطريرك صفير وَقتذاك، هو متحمّس الآن لإسقاط عون على رغم رفض الراعي. ويعتبر أنّ «هذه الخطوة الإصلاحية الأولى»، ويُشجّع القوى السياسية المسيحية على حمل هذا العنوان، لأنّ «الرئيس الذي يخدم مصلحة إيران هو رئيس مُرشّح لأن يكون ساقطاً».
ويوضِح سعيد أنّه «لا يُمكن الطلب من البطريرك الماروني إسقاط رئيس الجمهورية». ويقول: «البطريرك يصلّي، وإذا سقط الرئيس يصلّي أكثر». في هذا الإطار، رفض البطريرك صفير في عام 2005 إسقاط لحود منعاً للفراغ، ولأن «ليس لنا مصلحة في المساهمة في إضعاف الرئيس الماروني...». وعلى رغم أنّه كان ضد التمديد، إن لرئيس الجمهورية الأسبَق الياس الهراوي أو للحود، وذلك انطلاقاً من مبدأ عدم القبول بتعديل الدستور والتمديد أيّاً كان «الشخص»، قال صفير في مقابلة تلفزيونية في 17 آذار 2005 في اليوم التالي لزيارته لواشنطن: «كنّا ضد تعديل الدستور والتمديد، أمّا بعدما تمّ ما تم، فالأمر انتهى بالنسبة إلينا». وشدّد على أنّ « الرئيس يجب أن يكون فوق الجميع وأن يكون موضع احترام، فلا يتم تناوله من هنا أو هناك». وهذا المنطق نفسه الذي يتحدث فيه الراعي الآن رداً على المطالبة باستقالة عون.
على الصفة السياسية مسيحياً، على رغم مقاطعة حزب «القوات اللبنانية» لعون، إلّا أنّ عدم تَصدّر الحزب المسيحي الأكبر بعد «التيار الوطني الحر» (بحسب نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في أيار 2018)، الدعوة الى استقالة عون، يُشكّل مع حماية بكركي، غطاءً مسيحياً لرئيس الجمهورية، يحميه حتى نهاية عهده. هذا على رغم أنّ العلاقة مقطوعة بين «القوات» ورئيس الجمهورية، وهناك فك ارتباط سياسي بين الجهتين، فلا يزور القصر الجمهوري أي مسؤول في «القوات»، من رئيس الحزب سمير جعجع الى نواب تكتل «الجمهورية القوية» ووزراء «القوات» السابقين. ويقول قياديون في «القوات»: «لا يوجد أي علاقة سياسية مع العهد لا من قريب ولا من بعيد، ونتعاطى معه على قاعدة أنّه موجود في الموقع الذي يَشغله».
إلّا أنّ «القوات» لا ترسم أي «خط أحمر» على استقالة عون أو عدم استقالته، أو على استقالة أي مسؤول آخر، فبالنسبة إليها لا خطوط حمراً أمام إرادة الناس. وهي غير متمسّكة ببقاء الرئيس في القصر الجمهوري، لكن في المقابل إنّ الأولوية بالنسبة إليها هي لانتخابات نيابية مبكرة، لأنّ «ميزان القوى الراهن في ظلّ الأكثرية الحالية، بإمكانه إعادة انتخاب رئيس من الطبيعة نفسها والفريق السياسي نفسه. وبالتالي، نكون قد دُرنا في حلقة مفرغة، بل قد نذهب الى الأسوأ لجهة أننا الآن أمام أقل من سنتين على انتهاء عهد عون، فيما سنكون أمام 6 سنوات جديدة من عهد رئيس جديد تنتخبه الأكثرية الحالية، وبالتالي سنصبح أمام أزمة إضافية». من هذا المنطلق، تعتبر «القوات» أنّ الحل يكمن في «إجراء انتخابات نيابية مبكرة، يُمكن من خلالها إعادة إنتاج السلطة على المستويات النيابية والوزارية والرئاسية».
وفي حين ينتقد كثيرون وضع الراعي خطاً أحمر أمام إسقاط عون على رغم أنّه «أسوأ عهد» عرفه لبنان، بحسب هؤلاء، ما يجعل «الأقطاب المسيحيين» يلتزمون «إرادة» مرجعيتهم الروحية، تؤكد مصادر «القوات» أنّ الراعي لم يطلب من جعجع التزام أي خطوط حُمر، مشيرةً الى أنّ خطوط التواصل مفتوحة بنحوٍ دائم بين الحزب والبطريركية المارونية، والتشاور مستمرّ بين جعجع والراعي حول جملة ملفّات، من الحياد الى الوضع السياسي العام في لبنان، مؤكدةً أنّ «العلاقة بين معراب وبكركي من طبيعة استراتيجية بما يَخدم الوضع اللبناني عموماً والتوازن الميثاقي خصوصاً».