فيما عاد الاستحقاق الحكومي الى الدوران في دائرة التعقيد، وتراجعت احتمالات ولادة الحكومة قبل الاعياد، أعلن قصر الإليزيه رسمياً مساء امس، أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيزور لبنان في 22 و23 من الجاري، في رسالة الى المعنيين تؤكّد تمسّكه بمبادرته لحلّ الازمة اللبنانية، على رغم من كل ما تتعرّض له من انتهاكات ومعوقات داخلية وخارجية. فيما دخلت البلاد في سجالات سياسية وقضائية، اثارت مخاوف من ان تلقى قضية انفجار مرفأ بيروت المصير نفسه الذي لاقاه التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان.
تراجع ملف تشكيل الحكومة العتيدة الى الدرجة الثانية ليتقدّم ادّعاء المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي فادي صوان على كل من رئيس حكومة تصريف الاعمال وثلاثة وزراء سابقين، وعاد الصمت المطبق ليسود في القصر الجمهوري و»بيت الوسط».
وكشفت مصادر مطلعة لـ «الجمهورية»، انّ المعادلة ما زالت قائمة على قاعدة انّ بعبدا تنتظر ردّ الحريري على اقتراح رئيس الجمهورية، اعادة النظر في التوزيعة المقترحة للحقائب الوزارية على الطوائف والمذاهب، فيما الحريري ينتظر في المقابل ردّ عون على تشكيلته.
وانطلاقاً من هذه المعادلة السلبية، اضافت المصادر، انّ كلاً من عون والحريري يعرفان مواقفهما المتناقضة من عملية التأليف، بعدما تعززت الشقوق التي تؤكّد الإنقسام بينهما، وهو ما يوفّر الاجوبة عن اسئلتهما تلقائياً. ولذلك، فإنّ ما يجري لا يعدو كونه تجميداً للبحث في ملف التأليف الى اجل غير مسمّى، في وقت يغيب اي دور للوسطاء المحليين او الاجانب على حدّ سواء.
الحريري ادّى المهمة
وفي الإطار عينه، قالت مصادر «بيت الوسط» لـ «الجمهورية»، انّ الرئيس المكلّف أدّى المهمة الموكلة اليه، فقدّم تشكيلة وزارية كاملة بتوزيعة منطقية للحقائب، ترجمة للتفاهمات السابقة، واقترح اسماء حياديين لا غبار على تاريخهم وسِيَرهم الذاتية. ولذلك، المطلوب ان يحدّد رئيس الجمهورية موقفه، فيلتقي الحريري ليقترح الأسماء البديلة من تلك المطروحة، شرط ان تكون بالمواصفات المطلوبة، ان كان لا يزال يؤيّد المبادرة الفرنسية، وإلّا فإنّ العكس يؤدي الى تعقيد مهمة التأليف وتأجيلها الى اجل غير مسمّى.
موقف اممي
في هذه الاثناء، دعا الممثل الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش، الساسة اللبنانيين إلى «تشكيل حكومة دون تردّد»، مؤكّداً «أنّ المجتمع الدولي لن يتولى زمام الأمور في لبنان، لكن على السياسيين القيام بواجبهم.
وقال كوبيتش في حوار مع قناة «العربية ـ الحدث»: «كل إجتماعات الأمم المتحدة تشدّد على رسالة واحدة، الدولة يجب ان يتمّ إدارتها، والدولة عليها تحمّل المسؤولية، والعمل بطريقة مسؤولة وشفافة لإدارة الوضع»، مشيراً إلى «أنّ اهم رسالة من اجتماع مجلس الأمن كانت تشكيل حكومة بدون تردّد، وهي الرسالة نفسها من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وايضاً اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين، الذين شدّدوا على الحاجة لتشكيل حكومة بأسرع وقت». وأضاف: «المجتمع الدولي لن يأتي ويستلم لبنان ويديره. لكن الرسالة تطلب من القيادات اللبنانية «قوموا بعملكم»، وعلى اللبنانيين الوقوف لأنفسهم، فهم لفظوا الطبقة السياسية في 17 تشرين الماضي، وهم قدّموا افضل مثل لما يمكنهم القيام به»، مؤكّداً: «نقف إلى جانب الشعب اللبناني ومطالبه بمحاربة الفساد وضرورة المحاسبة».
وقال: «إنّ الأزمة اللبنانية تُحلّ داخلياً بين الأفرقاء اللبنانيين»، مؤكّداً «أنّ مواجهة سيطرة «حزب الله» على لبنان لا تتمّ إلّا داخلياً عبر الساسة اللبنانيين».
ورداً على سؤال حول المضايقات لـ»اليونيفيل» في الجنوب قال المبعوث الأممي الخاص في لبنان، إنّه يجب تأمين حرية تنقّل القوات الدولية، وأضاف: «تطوير قدرات اليونيفيل العسكرية والأمنية على أجندة مجلس الأمن لتنفيذ 1701».
كما أكّد أنّ انتشار الجيش بشكل موسع على الحدود مع سوريا ضرورة ملحّة. وشدّد على ضرورة تطبيق القرارات الأممية المرتبطة بحصر السلاح بيد الدولة ونزع سلاح الميليشيات ومنها القرارات 1559 و1680 و1701. وقال: «الأمم المتحدة واضحة جداً في ما يتعلق بسلطة الدولة، وهي السلطة الشرعية الوحيدة التي يجب ان تكون هنا. أما امتلاك والاستحواذ على السلاح من أي مجموعة بما فيها «حزب الله» خارج سلطة الدولة، غير مقبول ولا يجب ان يكون مقبولاً. انّها مسؤولية سلطة الدولة الإهتمام بهذا الأمر. اما موقف الأمم المتحدة، فنحن نعتبر أنّ الحل الأمثل هو بتطبيق القرارات الدولية 1559 و1680 و1701. هذه القرارات تنص بوضوح، أنّ اي جهة لديها سلاح خارج سلطة الدولة لا يتوافق مع القرارات الدولية».
في البازار السياسي
وفي المقلب الآخر، دخل ملف ادّعاء قاضي التحقيق العدلي في انفجار المرفأ فادي صوان على رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب والوزراء السابقين غازي زعيتر وعلي حسن خليل ويوسف فنيانوس، في البازار السياسي والطائفي، وتحولت المسألة ازمة سياسية بجوانبها الطائفية والمذهبية، وانقسمت المواقف على قياس الانقسام الحاصل على المستويات السياسية والحزبية والطائفية، فتوحّد موقف رؤساء الحكومات السابقين خلف رئيس حكومة تصريف الاعمال، متناسين ما عكسته الخلافات السابقة حول كثير من الملفات التي وضعتهم جميعاً في خندق واحد في مواجهة حكومة دياب.
رؤساء الحكومات
وعلى هذه الخلفيات، اجمعت مصادر رؤساء الحكومات السابقين، على انتقاد خطوة صوان وتحميله مسؤولية «الانسياق خلف بعض المشاريع التي يمكن ان تؤدي الى انقسام حاد بين اللبنانيين». وتوقفت هذه المصادر امام بعض المعطيات، متسائلة عن الظروف التي دفعت صوان الى الادّعاء على رئيس الحكومة وعدد من الوزراء دون سواهم، فالمواد التي انفجرت موجودة في مرفأ بيروت منذ 7 سنوات، فما هي مسؤولية ادارة المرفأ، ومن اعطى الامر بحفظها وتخزينها في العنبر الرقم 12 بدلاً من اعادة شحنها الى الخارج، من حيث اتت او الى اي جهة اخرى؟ واشارت الى تجاهل صوان بقية المسؤولين في قطاعات امنية وعسكرية وقضائية، قبل الادّعاء على من يتحمّلون المسؤوليات السياسية على رأس وزاراتهم وفي موقع رئيس الحكومة.
تضامن مع دياب
وكان إدّعاء صوان على دياب اطلق حملة تضامن في الوسط السنّي مع رئيس حكومة تصريف الاعمال، فزاره الحريري في السرايا الحكومية، وقال بعد اللقاء: «أتيتُ إلى رئاسة الحكومة لكي أعبّر عن رفضي المطلق للخرق الدستوري الواضح والفاضح الذي ارتكبه القاضي بالادّعاء على رئيس الحكومة. الدستور واضح، ورؤساء الحكومات يَمثلون فقط أمام محكمة خاصة يُشكّلها المجلس النيابي». وأضاف: «رئاسة الحكومة ليست للابتزاز، من الآخر، وهذا الأمر مرفوض، ونحن لن نقبل به. من حق أهالي الشهداء معرفة الحقيقة، من حقهم ان يعرفوا مَن أدخَل هذه الباخرة ومن غَطّى عليها. امّا التعدّي على الدستور والادّعاء على رئاسة الحكومة فهذا أمر مرفوض، وأنا أتيتُ للوقوف مع رئيس الحكومة والتضامن معه».
من جهّته، قال الرئيس فؤاد السنيورة، في حوار تلفزيوني، إنّ المحقق العدلي يخالف الدستور ويتخطّى صلاحياته ويخالف مبدأ فصل السلطات الدستورية، لأنّ الدستور يحرص على حَصر الادّعاء بمجلس النواب في هذه الحالات. وأضاف: «لا يجوز أن يُستعمل القضاء قناعاً لعمليات بوليسية أو لتركيب اتهامات من أجل تصفية الحسابات السياسية أو للانتقام. وإذا كان هناك من حيادية حقيقية، فمن الأولى أن يُصار الى طلب الاستماع إلى فخامة الرئيس الذي قال بعَظمة لسانه إنّه علم بالأمر يوم 20 تموز، أي قبل 15 يوماً من التفجير». واعتبر «أنّ التحقيقات لا يمكن ان تتمّ في شكل حيادي وصحيح إلّا من خلال العودة إلى المطالبة بتحقيق تُجريه لجنة تحقيق دولية».
وفي السياق، تلقّى دياب اتصالاً من الرئيس تمام سلام الذي أكّد «وقوفه إلى جانبه»، رافضاً «التطاول على شخص الرئيس دياب وعلى موقع رئاسة الحكومة».
وبدوره، مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان قال في بيان: «انّ الادّعاء على مقام رئاسة الحكومة استهداف سياسي غير مقبول وتجاوز للدستور ولقانون محاكمة الرؤساء والوزراء السابقين، ويصبّ في اطار حملات كيدية واضحة للعيان لا تخدم العدالة لفريق معيّن دون آخر، لتصفية حسابات سياسية».
تزامناً، غرّد رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، كاتباً: «لا يجوز وتحت أي اعتبار ان يقف التحقيق في كارثة المرفأ امام الحواجز الدستورية او الطائفية، ولا بدّ ان يشمل الجميع بلا استثناء. انّ انفجار المرفأ جريمة إنسانية بحق بيروت وكل لبنان. تذكّروا المحكمة الدولية، وتذكّروا اننا طالبنا بلجنة تحقيق دولية في انفجار المرفأ. ما عدا وبَدا؟».
وعلّق «حزب الله» على قرار القاضي صوان، فقال في بيان: «إننا نؤكّد حرصنا أن تكون كل الإجراءات التي يتخذها قاضي التحقيق بعيدة عن السياسة والغرض، مطابقة لأحكام الدستور، غير قابلة للاجتهاد او التأويل أو التفسير، وان يتمّ الادّعاء على أسس منطقية وقانونية، وهذا ما لم نجده في الاجراءات الاخيرة. وبالتالي، فإننا نرفض بشكل قاطع غياب المعايير الموحّدة والتي أدّت الى ما نعتقده استهدافاً سياسياً طاوَلَ أشخاصاً وتجاهَل آخرين من دون ميزان حق، وحَمّلَ شبهة الجريمة لأناس واستبعد آخرين دون مقياس عدل، وهذا سوف يؤدي مع الأسف الى تأخير التحقيق والمحاكمة، بدلاً من الوصول الى حكم قضائي مبرم وعادل. لذا، ندعو قاضي التحقيق المختص الى اعادة مقاربة هذا الملف الهام من جديد، واتخاذ الاجراءات القانونية الكفيلة بالوصول الى الحقيقة المنشودة بمعايير موحّدة بعيدة كليّاً عن التسييس».
صفقة «سبوت كارغو»
من جهة ثانية، لاحت في الافق مؤشرات الى فضيحة جديدة على مستوى وزارة الطاقة، حيث اتهم البعض، المسؤولين فيها، بطرح دفاتر شروط مشوبة بعيوب، من اجل الايحاء بأنّ ادارة المناقصات هي التي تعوق اجراء المناقصة بغية إمرار صفقة «سبوت كارغو» التي يروّج لها البعض في وزارة الطاقة، تحت طائلة دخول البلاد في العتمة بدءاً من مطلع السنة الجديدة.
وفي ضوء هذه المعطيات، اصدرت ادارة المناقصات في التفتيش المركزي البيان التالي:
«يبدو انّ المكلّفين بشؤون الطاقة والنفط في البلاد يرغبون هذه الايام؛ في اصدار بيانات تضليل متناقضة في عباراتها، فارغة في محتواها من اي مضمون، يختبئون فيها وراء المديرية العامة للنفط.
لهؤلاء نقول: انّ الحكم يبقى للحقائق والمستندات المثبتة بتواريخها ومضامينها؛ وبالنصوص القانونية؛ والمجلس النيابي هو سلطة الرقابة الاولى في البلاد. فإلى يوم الخميس، الساعة الحادية عشرة ظهرًا».
السجن المؤبد لعياش
على صعيد آخر، قضت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان الجمعة، بالسجن مدى الحياة بحق سليم عياش، الذي يشتبه بانتمائه إلى «حزب الله»، وأدين بالمشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005.
وقال القاضي ديفيد ري من المحكمة ومقرها هولندا، إنّ «الجرائم خطيرة إلى درجة أنّها تتطلب العقوبة القصوى». وأضاف أنّ «المخالفات على درجة كبيرة من الخطورة إلى حدّ أنّ الظروف التي يمكن اعتبارها تخفيفية وتسمح بتخفيض العقوبة، نادرة». وأكّد أنّ «الدائرة الابتدائية ترى وجوب فرض العقوبة القصوى لكل من الجرائم الخمس، وهي السجن مدى الحياة يتمّ تنفيذها في وقت واحد».
وأعرب الحريري، عن أمله في أن يقضي سليم عياش عقوبته.
وقال عبر «تويتر»: إنّ «العدالة الدولية أصدرت حكمها في قضية الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقة، والعقوبة التي أُنزلت بسليم عياش يجب وضعها موضع التنفيذ، وعلى السلطات القضائية والأمنية اللبنانية القيام بواجبها في هذا الخصوص».
ونقلت وكالة «فرانس برس» عن الباحث في معهد «آسر» في لاهاي كريستوف بولوسان قوله، إنّ «المحاكمات الغيابية ليست الطريقة المثلى لتحقيق العدالة». ورأى إنّ المحاكم الدولية تشبه «عملاقاً بلا أذرع أو أرجل» لأنّها تعتمد على الدول في اعتقال المشتبه فيهم، وليست في وضع يمكّنها من تنفيذ أيّ قرار بنفسها. واضاف: «لكن رغم هذا العائق، نجحت المحكمة الخاصة بلبنان على الأقل في تشكيل ملف قضائي مقنع، حول ما حدث قبل 15 عامًا، ما ساعد المجتمع اللبناني في الانتقال من ثقافة الإفلات من العقاب إلى ثقافة المساءلة».
وسيكون سليم عياش في قلب محاكمة أخرى في المحكمة نفسها، تتعلق بثلاثة اعتداءات دموية أخرى ضد سياسيين لبنانيين في عامي 2004 و2005.