هناء عبد الخالق: الفن هو الصمود الإبداعي
هناء عبد الخالق: الفن هو الصمود الإبداعي
كه يلان محمد
Friday, 11-Dec-2020 06:17

يملأ الفن ثغرات الروح ويخترع الحياة كلما تمّ اعتقالها، على حَد قول جيل دولوز، ويحرّر الإنسان من ضيق العبارة وذلك عندما يُضيف إمكانيات جديدة إلى المعجم من خلال الاستعارات اللونية واللغوية، بحيث تنطلق الرؤية نحو أفق أرحَب ولا تتقيّد بإرغامات ظاهِر الحَدث. وهذا ما يفسّر العودة إلى الأدب والفن كلما حَلّت الكوارث بالبشرية.

كانت الأشكال التعبيرية الجديدة المُتلبّدة بالغضب تُمثّل رسالة الفنانين ضد العدمية المدمّرة والمعاناة الناجمة من الحروب، ولم يكن الفن بعيداً عن تناول ابتلاء الإنسان بصراعٍ مرير مع الأوبئة.

وحول دور الفن وما يمكن أن يقدّمه عبر تفاعله مع الواقع الإنساني المتأزّم، كان لنا حوار مع الفنانة والأكاديمية اللبنانية هناء عبد الخالق. فالمُتابع لأعمالها الأخيرة يرى مَلمحاً جديداً في أسلوبها الذي يترجم حساسيتها العالية في مقاربة الهموم الإنسانية.

 

1 - بعد انتشار وباء كورونا، بدأ الاهتمام من جديد بأدب الأوبئة وتمّت استعادة الأعمال السينمائية التي تناولت احتمال وقوع الكارثة. كيف انعكست الحالة في الفن التشكيلي؟

تزامَن ظهور كورونا مع انهيار القيم الكبرى في عالم اليوم، وخاصة في المجتمعات التي تباهَت بفردانية الحداثة وما بعدها. وهذا قادنا إلى تطوير أسئلة وأفكار فَرضها وضعٌ إنساني كارثي.

 

فكان لا بد من العودة، سواء بالأدب أو الفن، إلى معاناة البشرية من الأوبئة الفتّاكة على مرّ العصور، لخَلق حوار فكري أخلاقي عميق واستطلاع، وربما استنتاج، ما ستؤول إليه هذه اللحظات الإنسانية الكئيبة القادمة.

 

فبرزت بعض المقالات الفنية تَستذكِر زمن «الطاعون»، الوباء الذي اختلطت رموزه الدالّة عليه، وأبرزها شكل شيطان يهدد البشرية بالفناء، وبين فَنّانين جَسّدوا حالات الوباء والموت بشكل واقعي... ومقالات أخرى تناولت أعمالاً لفنانين رَسموا العزلة أو تنبّؤوا بها كالفنان، ادوارد هوبر وغيره...

 

لكنّ الفن لا يقف عند هذا الحد إنما هو الأداة للتشبّث بمظاهر الحياة ومقاومة الخوف، للتعبير عن الذات في ظل حالة من العزلة والقلق على المصير.

 

2 - كيف تبدّلت مواضيع الفن وأساليبه في زمن كورونا؟

تعددت أساليب الفن في زمن كورونا، ففي بداية الأزمة أخذ الفن صِفة الإعلان والتوعية والتحذير من مخاطر الوباء، مثل شعار (خلّيك بالبيت) وغيره من الشعارات، بطريقة تَخلو من الترهيب والذعر، وتشجّع المتلقّي على الممارسات الوقائية بمتعة جمالية تناقلتها منصات التواصل الاجتماعي ووسائله.

 

ومن أجل تخفيف وطأة العزلة قامت بعض المتاحف بدعوة الناس إلى تحويل لوحات كلاسيكية نالت شهرة واسعة إلى لوحات حيّة داخل جدران وأثاث عصريّ ونَشرها على وسائل التواصل، وذلك لاختراق العزلة وتحطيم الجدران بين المتحف والمتلقّي.

 

واتّجَه الفنانون إلى فنون الشارع بهدف التوعية والتوثيق اليومي التفاعلي، بالإضافة إلى تشجيع المعارض الافتراضية لتحطيم جدار العزلة وخلق مساحات لونية تعبيرية تجسّد المرحلة وتؤرِّخ لحالة مفصلية من التاريخ الحديث.

 

أما المواضيع والتقنيات فهي لا تعد ولا تحصى، وكان لظهور أول صورة فوتوغرافية للفيروس تحت المجهر تأثير كبير في أعمال الفنانين، فباتَ رمزاً علمياً وفنياً وليس شبحاً مُتَخَيّلاً كما الأزمنة السابقة. كذلك تركَ تأثير القناع وأهميته في الحماية أثراً كبيراً في العديد من الأعمال الفنية.

 

3 - عندما تأخّر إيجاد وصفة طبية للمعالجة انصَرفت الأنظار نحو الفلسفة والأدب بحثاً عن العزاء. برأيك، ماذا يمكنُ للفن أن يقدّمه على هذا المستوى؟

«الإنسانية لا تتحمّل كثيراً من الواقع»، على حد تعبير إليوت، لذلك علينا أن نتوصّل إلى توافق مع الواقع أو نتخطاه لنتمكن من تحمّله. وللفن دور بارز في تخطّي هذا الواقع المتأزّم كما في جائحة كورونا. فالفن هو الصمود الإبداعي، من خلال تقديم الدعم النفسي والتعبير عن الذات كخطوة أولى للفنان. أمّا تجاربه الفنية فهو يَتشارَك بها مع الآخرين ويحثّ المتلقّي على التفاعل بما يجسّده من هموم مشتركة معه، ساعياً لكسر الشعور بالملل والقلق من الوباء وتقليص حدة ظروف الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي.

 

فالفن يقدّم الرؤية الإبداعية كمقاومة مشرقة في زمن الخيبات، هو بمثابة وَمضة ضوئية تَشعّ النور لِمن تسوده الكآبة والعزلة.

 

4 - في أعمالك الفنية الأخيرة تفاعلت مع الوقائع والأزمات الوجودية الناجمة من أخطاء البشرية أو الكوارث الطبيعية هل كان لهذا الأمر دورُ في الصَخب أو الكثافة التعبيرية في لوحاتك؟

 

إنّ العزلة التي أحدثها وباء كورونا بعد انهيار الوضع الاجتماعي والاقتصادي في لبنان بسبب الوضع السياسي وفشل المُتحكمين بزمام السلطة وتَسلّطهم على مقدرات البلاد، قادَ الفنان إلى أسئلة وجودية ملتبسة ومستحيلة، أعقَبه انفجار مرفأ بيروت الذي أصابنا في الصميم وهَدم ما تبقّى من مداميك بداخلنا كنّا نحاول تدعيمها بكل ما أوتينا من قوة نستمدها من الفن لبناء إطار تعبيري جامع للجمال والتمسّك بالحياة.

 

هذا الصَخب النفسي هو حصيلة عملية تفاعل واعية وغير واعية في خِضمّ الزمان والمكان، ومن الطبيعي أن يترك أثراً في الكثافة اللونية التعبيرية في أعمالي الأخيرة، وكذلك في استعمال وسائط مختلفة، ومنها المرآة المحدّبة وهي إعادة تقديم لِما هو مألوف بصيَغٍ أو طرق غير مألوفة. فجعلت في أحد الأعمال فيروس كورونا في وسطها كهدف لعين لا نريد إلّا تسليط سهامنا عليه لإنقاذ البشرية... وفي عمل آخر لملمت أجزاء مرآة مُحدبة كما تلملم بيروت أجزائها اليوم، ولونّتها بما تبقّى من مرفأ بيروت بألون تعبيرية تخفي تعب وجوهنا وآلامها..

 

5 - تكتسب المرأة حضوراً لافتاً في لوحاتك الأخيرة هل أردت بذلك إضفاء بُعد رمزي للكائن الأثنوي؟

لا أطرح موضوع المرأة من منظار «النسوية» بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، لكنني أتناولها بإخلاص امرأة تعيش هموم النساء وتشعر بمعاناتهنّ، لذلك يصعب تخطّي هذه المعاناة إلى القضايا العامة من دون التعبير عن المرأة من منطلق وجودي فهي انعكاس لحلمٍ تعبيري صادِق، وهي المنفَذ إلى النور.

 

إنّ التعامل مع الموقف التشكيلي بتعبيرية في حضور المرأة يطرح قضاياها بجماليات تتناسَب مع ما تمثّله المرأة من قيَم ورموز مثل الحب والحياة والأمومة، وفي أعمالي الأخيرة جسّدت المرأة بوجعها وصبرها وأملها، هذه المضامين تجتمع لتُحاكي أحاسيسها المتخبّطة في أزمة الوجود وتصدع مفاصل حياتها بموت محتمّ لأحد أفراد عائلتها أو أكثر، لانهيار بنيانها المادي والمعنوي. لذلك أتى التعبير عن هذه المرأة بانشطار الأجزاء وقوة الترميز بصرياً، وتفعيل دورها كنموذج للكائن المقهور والمكافح من خلال دمجها وتكثيفها مع الخطوط واللون.

 

6 - هل تعتقدين بأنَّه من الضروري بالنسبة للفنان متابعة أعمال غيره وما هي الأعمال الفنية التي ألهمت بفكرة عبّرت عنها بطريقتك؟

يطوّر الفنان رؤيته من خلال المتابعة الدؤوبة للأعمال البصرية المعاصرة وسهولة التواصل في عالم التكنولوجيا، ومن خلال مشاركته ومتابعته للحركة التشكيلية، سواء بحضور المعارض الهامة أو زيارة المتاحف.

ما يَستهويني في المتابعة هو البحث عن حالة الدهشة والغرابة، لِمنحي رؤية جديدة بحيث يكون الشكل والمحتوى غير مألوفين وغير اعتياديين، ممّا يتطلّب منّي قدراً من الاهتمام والتأنّي لقراءة العمل فكرياً وبصرياً، وهذا يعزّز من محتواه ومضمونه.

 

أمّا الإلهام فلا يأتيني من فكرة محددة إنما من خلال تساؤلاتي وأحاسيسي المكثفة بالحياة والوجود، لأتوصّل إلى رسم مغامرة بصرية بأداء تشكيلي وتقني مُتداخل، يَحوي عناصر مرئية بالإضافة إلى رموز بحاجة لفك طلاسمها.

theme::common.loader_icon